اعلان

عايشة.. قصة قصيرة لأثير صفا

أثير صفا
كتب : أهل مصر

هي لا تنتمي إلى هذا الكوكب اللعين. يسألنوها: كيفك؟ تقول: عايشة. ولكن، أين تعيشين؟! هذه الأرض لا تنفك تدور كموظف حكومي، يتمتع بدرجة آي كيو دون المعدّل، ربّه الرتابة، حذاؤه مُغبَر، لا يعرف القفز، لا يعرف الجري، لا يجيد إلا المشي في ممر، لونه رمادي كجحش، يتأبطك كأنكِ جريدة تُباع على الأرصفة ويمشي، جريدة تُثقل بحجر كي لا تطير، وأنتِ القدّيسة الجديرة بنورٍ يتولد عنه النور لا تَعَرُّقِ الآخرين. لا تنتمين إلى هذا الكوكب الذي عن عمدٍ يتجاهلك، عن عندٍ يتجاهلك، ولكنك كذلك لا تعين أنك.. لا تُدرَكين! الخطأ خطؤك، والخطو خطوك، نشازٌ في كوكبٍ سيّار مرهونٍ بالمدار إياه، كابرًا من بعد كابر، إياه المدار، فلماذا تكابرين؟ اضبطي نفسك حسب الإيقاع، لملميها وانتبذي من هذا العالم المترامي بتراميكِ مكانًا تحت شجرٍ يسيل صمغًا، شقّي اللحاء وادهني أعضاءك بالغراء علّك تتماسكين. لا بأس إن بدوتِ كمزهرية صينية رخيصة لصق أحدهم أجزاءها بشكلٍ غير حِرفي.

كوني مشوّهة، كي تكوني مُدرَكة.

في عالمٍ يحتكم للمادة لا تُشترى أثيريتك إلا في قوارير.

وإن كنتِ مصرّةً على هيئتك، فهنا لم يعد مُرحّبًا بك.

تستمعين إلى أغنية داليدا "حلوة يا بلدي" وتبتسمين بخبث: ما دامت بهذه الحلاوة فلماذا ماتت منتحرة إذًا؟ بجرعة زائدة من أقراص النوم! كيف؟ كيف وأنتِ تبتلعين شريطًا كاملاً مدفوعةً حباتُه بريقك لا بكأس ماء، ولا تشعرين بـ .. شيء. تتحولين إلى حدقات، تتسع لما فات ولما هو آت، وتضيء عيناك كحيوان يصطاد الفرائس ليلاً.

تُدفن داليدا بمقابر "Cimetiere de Montmartre" في باريس، يُصنع لها تمثال بنفس حجمها الطبيعي، يوضع شامخًا، ناهدًا، عند قبرها تمامًا. يُعتبر أحد أكثر الأعمال المنحوتة تميّزًا في المقابر الخاصة بالمشاهير. هل يرضي هذا الحلوة؟ أي بلدٍ بالضبط هي بلدها التي استحلَتْها وكل البلاد بلادها، والأرض كلها تُستهلك في خطوتين من خطواتها، ولذلك ماتت مبكرًا، ومثلها ستموتين.

أرضنا ستحتفي فيك حين تستكينين، ومثلك لا يستكين إلا في بطنها.

عايشة تجيبين. ولكن كيف تعيشين؟ هنا، وسط هذه الأكداس من اللحم البشري المتورّد، لا تثير الحقيقة العلمية التي تفيد بأن الخنازير هي الأقرب تشريحيًا للإنسان، في نفسكِ الغرابة، أنتِ الكائنة التي لم تتلطخ يومًا بالطين. قدماكِ غير مهيأةٍ جينيًا للغوص في هذا المستنقع، ومحفل الوحل لا يترك في نفسك إلا شعورًا بالدهشة، في حين يخّلف القذارة بالآخرين. لعلّك سقطتِ علينا من المريخ، كوكب وليد لا يزال جنينًا غير مكتمل النمو، تستطيعين تشكيله على هواكِ حين تكونين رائقةً، أو رياحك حين تعصفين. وللمريخ قمران، يسمّى الأول ديموس (الرعب باللغة اليونانية) والثاني فوبوس (أي الخوف). أقمار مرتابة نفّاضة لا تشبهك في شيء، حتى حُمّاها بُرَداء، تدور في فلكك، مأخوذةً فيكِ كما المريدين. تداركي الموت وتطايري إلى هناك حيث لا هواء، املئي رئتيك بغبار أكسيد الحديد الثلاثي في جوّه، كي تشعري بوحدانيّتك على راحتك، وتَسمّمي على مهل، ثم التقطي أنفاسك.. بصعوبة شُدّيها إلى صدرك، لا لشي إلا لأن لون الكوكب الأحمر يشبهكِ أكثر، كوكب ذكر، رمزه الفلكي ♂، يشير إلى درع إله الحرب الأسطوريّ "مارس" ومن ورائه رمح كفيل بشقك إلى نصفين، يصوّبه نحوك حين يختل توازنه وأنت تستجدين بالشهقة تتلوها الشهقة، مقطوعة ثم ممدودةٍ منغّمة. تتفقين مع الذكور أكثر، هذه طبيعتك بالمعايير الربانية كيفما هي، وعيبك بمعاييرنا الأرضية المحدودة. روحي إلى المريخ وموتي بشكلٍ ملحمي واشبحي روحك القتالية من قطبه إلى قطبه، أطلقي رغبتك وحوشًا، كوني لمرةٍ على سجيّتك. وهناك سيكون موتك مجلجلاً واضحًا وفاضحًا كما أردتِ، فهنا لن تموتي بغير المسكّنات. ميتة هادئة لا إبداع فيها. ارتحلي إليه وموتي، ثم دعيه يتفجّع عليكِ، كعشّاقك السابقين، ويموت منتحرًا لتصل شظاياه إلى هذه الأرض؛ نيازك تحرقها.

وإن كنتِ أقلّ شرًا من أن تحرقيه وتحرقينا وتحترقي، تجاوزيه إلى الزُهرة، روحي إلى هناك وتعالي.. ذلك التعالي، واحملي مرآة "فينوس" ♀ ربة الجمال الخبيء، طالعي فيها وجهك وعلينا استكثريه، وأحبي ذاتك حبًا لا تُطفأ فيه شهوة.

عايشة تجيبين. ولكن، لمن تعيشين؟ لنسخٍ مكرّرة تُباع وتشترى، محكومة بديدن الكوكب المُطفأ، وأنتِ الجحيم من الجيم إلى الميم، مهما تداريتِ –رغمًا عنا- تضيئين، حدّ الاشتعال، فوق الاحتمال تضيئين، حدّ العمى. تحدّرتِ إلينا من كوكبٍ مُنشّأ نظامهُ أقرب إلى فوضاكِ، فكفاكِ تخبطًا في أرضٍ تُقاس بالمتر المربع، اتركي الموازين على حالها، والمورثات التي ترثين لها تعيش في الجينات، في الدم، في الخلايا اللمفاوية، والقوانين لها ربّها، ارتحلي إلى سماكِ كي نرتاح، وهناك اجلسي على جرمٍ لمّاع ساخن لا يهدأ.. سيدةً مكتملة الحضور، عاريةً حتى الأطراف، عارمة الإحساس بالكينونة، بالديمومة، اجلسي ودلّي رجليك، فلا أحد هناك ليُبدي الملاحظات، والمكان كله –دون شك- لك، لك، لك.

والزُهرة كوكب بتمردك، يدور حول نفسه بعكس اتجاه دوران معظم الكواكب... كوكب بلا أقمار، يقول الفلكيون إنه ابتلع أقماره. حين تكشِف الحقائق العلمية عن وجه الشبه ووجهك يبدو الأمر مثيرًا للافتتان، مع أنك تظلين بلا سِيّ.

أنتِ الصداع.. مزمنًا، نصفيًا، وعنقوديًا، أنتِ الصراع، أنتِ التصدّع الكارثي، أنتِ الغضبة التي ستهبّ فينا، ترمينا بحجرٍ ببياض بطنها، ركبتها، ظهر كفها، بياض العمى الذي أصابنا. ونحن؟! كيف نبصرك إن كانت الشمس نفسها تطلع من تحت إبطك! ارمنا به، يسودّ من ذنبنا فيكِ، نجوب به أقطار الأرض، تدور بنا، ندور به، وندور حوله، إمعانًا فيما تكرهين.

...حينها فقط لن تترددي بابتلاعنا حتى نصير جزءًا من كلّك.

كثيرة الحركة أنتِ، وهذه الأرض مزروعة بالفخاخ تترصد كاحليكِ، تُطلّع غلّها الدفين في عظمك تطقطقه، وتردد الطقطقة كأغنية، وتطلّع لسانها نكايةً فيكِ لا لعقًا لجرحك. لا تخطي كي لا تخطئي يقول الرب، تناولي 70 مليغرامًا من الريتالين واهمدي واسلكي السرب مرسونة الوجه مرسومة الخطى، واستفرغي أجمل ما في فحواكِ في أقرب مرحاض عمومي، فأقصر طريق للموت هي الخط المستقيم. ولأنّ الطبيعة لا تعرف الخطوط المستقيمة، ولأنك الطبيعة، ابحثي لك عن مذنبٍ لاهٍ يتحرّق للسقوط، لارتطامٍ مهيب، شمسٍ تأكل نفسها، لافحٌ نَفَسُها، كوكبٍ متقافزٍ يتصرف ملء دائريّته، يستغل 360 درجة، حتى آخر درجة، أقصاها، ينزلق في فضاءٍ يتمدد، هناك حيث يستوعب المكان مطلقك، وحيث الزمان بُعدٌ قابلٌ للطي. كوكبٍ غير محكوم بالمدارات الإهليجية والحلقات المفرغة التي تصيبك بالدوار وتدعوك للتقيؤ. كوكبٍ منشق، تتشاقين فيه ولا تشقَيْن، لا تعُدين فيه للعشرة ولا تُحصيْن. كوكبٍ خارج مجموعتنا الشمسية، خارجٍ على المجموعات كلها، كوكب لم ترصده ناسا، فالفرق بينك وبين النجوم التي عرفناها أنك.. لم تُكتشفي بعد.

عايشة تجيبين...

كمعزوفة غير قابلة للعزف، في الخيال البعيد تعيشين. واحتمال تحققك وارد، يعادل احتمال وجود الحياة على كواكب أخرى، تبرعمها، حيثما حللتِ تحلّ، ولهذا سنموت نحن، حين أنتِ تعيشين...

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً