اعلان

"كما يجب لرجل ميت" قصة قصيرة للكاتب إيهاب مصطفى

كتب :

- الفاااااااااااااااتحة

إنطلق الصوت المفعم بالقوة يجرنا إلى ما حول القبر، وقفنا مبتهلين يا حسن، نفتح عيوننا لتيارت الدمع، كيف لم أصدقك حين قلت لي أنك ستموت؟، وكيف وصلت لمعرفة وقت موتك؟، كيف تجاوزت بصرك إلى بصيرتك ؟، كنت صاحبي الثالث الذي يموت خلال أسبوعين، جئتني وقلت لي أنك تعرف أن موتك قد حان، قلت لك" الموت سيجيئنا في أي لحظة يا بن العم"، نظرت في وجهى مليا، كان القلق يبنى أعشاشه على منحنيات وجهك، عيناك تبكيان يا حسن وأنا ما أحتمل دمعك يا أخي، ما قدرت لحظتها على النظر إليك والماء يتدافع ليشق طريقه ويسيل إلى الأرض، قلت لي "هل تتخيل أن يقوم الموت بدفعك لتسقط أمام السيارة التي تمرق بسرعة؟، وهل تتخيل أنه من الممكن أن يدخل إلى تفكيرك ويوقف نشاط عقلك وقت مجيء القطار؟، قل لي، لماذا ترفع يداك قدام وجهك إن كنت تدرك أنك لن تقدر على فعل شئ أمام همجية هذا الكائن؟، أليس هو وقوف العقل الذي يصور لك أن مواجهة هذا القطار خير من الجري بعيدا عنه؟"

حكيت لي يا حسن حكاية أبيك القديمة، حين كان يحفر ليدق الطلمبة التي ستشفط الماء وترمى للزرع بالحياة، كانت بديلا عن ملئ المياه من البئر البعيدة، وبديلا عن التعب في سحب الدلاء من بطنها، كانت جدران الحفرة متينة، ووالدك ليس تلميذا ليمنح الجدران الأمان إلا إذا كانت تستحق، ذرات الرمل كانت متماسكة جدا؛ حتى أن الفأس بالكاد يقتطع القليل من لحمها برغم عزم الضربة، ومع ذلك تربص له ملك الموت، كيف أقنع الجدران وقتها بالوقوع على أبيه؟، وكيف سمعت الجدران كلامه وكيف اقتنع الناس بتصديق تلك القصة التي أشاعها ملك الموت والتي قالت إن أبو حسن كان يبحث عن الكنز المخبوء، النجع بكامله حفر مكان موت الأب وبجواره، وفي كل الأماكن المحتملة....

أكمل حسن كلامه وقال لى: أتعرف لماذا لم يمت أحد غير أبى، قلت: لا، قال: لأن الموت لا يحتاج لأحد منهم، فلو احتاجك الموت لغرقت في شبر مياه وأنت الذي تعوم في البحر الكبير كسمكة، قلت له يا أخي، الموت ليس محتاجا لمبررات فمن الممكن أن تموت وأنت تمشى في الطريق الذي تحفظه منذ طفولتك، انت ضحكت بسخرية يا حسن وقلت لى "وأين إبداع ملك الموت في ذلك؟، أين متعته التي تسمح له بتنفيذ الأمر كل مرة بشكل جديد لا يجعله يمل مهنته"، كنت تعرف أنك ستموت وتعرف أن الموت يمنحك صك الإطمئنان المجانى ليأتيك على حين غفلة وينقض عليك انقضاضة صياد أنهك الجري طريدته، وقبل أن تمشى وقتها قلت لى إن ملك الموت يا صديقى مثلنا يكره الروتين وربما أحب أن يجرب شيئا جديدا أو ربما سيجرب القديم بتكنيك جديد.

الليل الآن يضرب النهار في مقتل، كتلة الناس تتفرق مثل خيوط إلى سائر الاتجاهات، جلست حول التبة الرملية التي تشكل ملامح قبرك، الآن ستبقى وحيدا يا صديقي، إحساسك كان صادقا وموتك دليل جيد على أن بصيرتك كانت نافذة، أتعرف يا حسن الآن أحس مثل إحساسك السابق، أعرف أن الموت يحوم حولي، وأن شباكه سوف تطوح الآن في السماء وتنزل على مهل لتشلنى فلا أعرف سبيل الخلاص، جريت من المقابر، ربما ملك الموت سيتربص لي مثل أصدقائي، سيجعلني أنا ختامكم يا حسن، سأموت لأن انتصاره بات قريبا، وسيمر إلى فرحته من خلال روحي، أنا لست مثلك يا حسن، أنا قرأت كثيرًا وأعرف الدروب التي يمشى فيها الموت، أعرف حيله التي يسرق بها أرواح الناس بغير رضاهم، لو مرضت ومت فلن يعتبر هذا انتصارا لأن المرض سينهك الفريسة ويجعلها تصبر على خروج الروح، وعلى العكس ربما سيدعو صاحب المرض على نفسه بالموت ليكون راحة من تعب، والأرواح التي ينهكها المرض لا تسبب متعة شخصية لملك الموت وربما تجعله يحزن لضعفه الظاهر.

معرفتى بحلول موتى جعلتنى احاول فهم الطرق التي سأموت بإحداها، القطارات والسيارات باتت موضة قديمة وتقليدية، ولا تصلح لفرحة متخيلة لملك الموت، ربما سيقف مثل طفل فوق أعلى البناية ممسكا بحجر ثقيل، ويحسب المسافة بدقة بين مرور رأسى والإرتفاع ويرمى حجره لينزل فوق رأسي تماما، ربما سيدفعني للمشي أسفل الجدار الكهل، ومع دخولي كاملا تحت الجدار سيدفعه بقوة ليتكوم فوقى، لكنى لن اترك نفسى له، أين حق الخصم في منافسة عادلة إن كان سيقبض روحي في المقهى مثلا؟، أنا لا أراه لكى أعقد معه اتفاقا يعفو فيه عنى إن قدرت على هزيمته، وقفت قليلا، سرت في داخلي رعشة، وجدتني أقف، كنت أكلم نفسى من داخلي، كأنه دخلني وسيطر على بعضي ضد بعضي، كأنه يحاول هزيمتي من داخلي.

- أنا موافق على الإتفاق وستكون خصما وندا جيدا ولكن إن أخطأت في توقعي فستموت.

تنهدت بقوة حين سرت الرعشة في نفسى مرة أخرى وعاد لي صفائي، لعله غادرني الآن يا حسن، قمت ودخلت إلى بيتنا، وجدت السلك الكهربائي يمشى ملتويا أمام غرفتي، أمسكته جيدا كان معزولا بالكامل، من الممكن أن يعريه فأموت حين أمشى حافيا أو أصب الماء لغسل الأرض، دخلت إلى المطبخ قطعت ثمرة طماطم، كنت حذرا جدا خوف وقوعها من يدى، ربما انتبه لغفلتي ورمى السكين أيضا، ومن الممكن ان يجعلها تقف مشرعة سنها إلى الأعلى، سيحسب أيضا أن المسافة التي سأقع عليها – حين يدفعنى – موافقة لرشق السكين في بطني، وربما سيجعلها في القلب إن كان رحيما بي، تركت الطماطم وابتعدت تماما عن المطبخ حيث أدوات الموت متوفرة بكثرة، سلك الكهرباء الذي يمد الثلاجة بالحياة، نار البوتاجاز التي ستهب في وجهى دون سبب واضح، السكاكين والسواطير المخبوءة في الأدراج، كانت عادتي أن أشرب شايا قبل نومى، ربما نفخ في النار لأموت، وربما سيدس شيئا ما في الشاي، مددت جسدي ولم أقدر على النوم، سيأتيني ليغافلني في نومى، الأرواح تغادرنا أثناء النوم، وربما وقف كحائط صد في طريق عودتها، لا لن أنام، بقيت سهرانا إلى الصباح أفكر كيف سيأتيني الموت، دققت النظر في كل الأنحاء، سيتجسد بعد قليل ليخبرني أنه تعب، وأنه لا يمل بعضا من وسائله التقليدية، سأموت واقفا أو قاعدا أو نائما، سأدفن بجواركم يا حسن، سأكون رابعكم لأرسم بروحى إبتسامة النصر على شفتيه، الصبح جاء كبشارة، فتح في نفسى فرحة لا أعلم مصدرها، قامت أمي من النوم، أمسكتها وقلت لها ان تجلس بجواري وانا نائم، أمي وافقت فنمت مطمئنا، قمت بغير أحلام يطاردني فيها...

جاءت أمي بالطعام فأكلت على مهل، أعرف أن أمي لن تساعده على وليدها، في الطريق كنت احاذر من البنايات العالية والجدران التي ستتهدم إن مشيت أسفلها، ابتعدت عن السيارات بقدر كاف، العيال في الطريق يمسكون الأحجار ويرمونها على بعضهم، وقفت تماما فربما أمسك بحجر وغير اتجاه سيره إلى رأسي، ابتعدت عن جلستي المعتادة أسفل الجبل، فربما دحرج بعض الأحجار من الأعلى، وإمعانا في الخديعة ربما كتم أصواتها لتهبط على جسدي، وقفت قليلا حين رأيت الخيالات تتقافز حولي، قمت مسرعا ودخلت البيت، كان السلك الكهربائي عاريا، بالأمس كان معزولا، سحبت السلك من مصدر الكهرباء فانطفأ نور الغرفة، الموت الآن قادم أعرف انه حولي، لكن الاتجاهات لا تحمل ملامحه، إنه يلاعبني، ربما سيقع سطح بيتنا على رأسي، ربما إن خرجت سيدفع عامود الكهرباء في اتجاهي، خرجت محاذرًا وسرحت قليلا لأفاجئ بالسيارة وهى تضغط مكابحها بقوة، رجعت مسرعا، لو تقدمت خطوة واحدة لفرمتني، كان يحذرني، موتى اقترب جداً، أعلم هذا، سمعت صوت ارتطام صادر من بيتنا، صوت أمي وهى تصرخ، رأيتها وهى تمسك قدمها بعد أن قامت بتوصيل السلك الكهربائي، نظرت من حولي فوجدتك يا حسن ومعك حامد وعزيز، كلكم تمسكون بالسكاكين، أنا صاحبكم يا حسن، قل لهم ولنفسك فربما نسيتموني، دخلت مسرعا وأمسكت بسكين المطبخ، أعرف أن ملك الموت هو من سلطكم لقتلى، إنه ينشر الخيالات لكم من حولي، ضحكت بقوة، لن أسمح له ولا لخيالاته بالانتصار على روحي، وفي غمرة الضحك مزقت الهواء بسكيني تجاه بطني، رأيت السكين وهى مغروزة ومستقرة بداخلي، رأيته يتجسد أمامي مبتسما، كنت مبسوطا لانتصاري عليه، الألم غير موجود، وضحكت بقوة حين مد يده إلى روحي، واستخلصها بضيق واضح.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً