اعلان
اعلان

حي عابدين.. مقر حكم الخديوي الذي اصبح متحفا منسيا

حي عابدين

حي عابدين من أشهر الأحياء في القاهرة العاصمة المصرية التي يشهد كل ركن فيها على مشاهد هامة من مشاهد سجلتها ذاكرة التاريخ في كل الحضارات والعصور، وتاريخ حي عابدين يعود إلى عهد الخديوي إسماعيل عندما جاء إلى مصر حاكما وكان يحلم بعاصمة مصرية على طراز مختلف، فكان يريد تنظيم القاهرة على غرار حي الإسماعيلية.

أصدر الخديوي إسماعيل أوامره لوزير الأشغال وقتها علي باشا مبارك وتم تمهيد وفتح الطرق الجديدة ودروب وأزقة كثيرة، وأقام ميدان فسيح الأرجاء وخطط لبناء قصر جديد ليكون مقرا للحكم، مما جعل من هذا الميدان مركز يتفرع منه عدة شوارع إلى ميدان الإسماعيلية الذي يحمل إسم التحرير الآن والأزبكية حيث شارع عابدين أو الجمهورية حاليا، بالإضافة لميدان السيدة زينب.

ومنطقة عابدين التي أصبحت قلب القاهرة الآن كانت عبارة عن مجموعة من البرك الراكدة منها بركة الفراعين وبركة السقايين والفواكه والناصرية ومجموعة من المستنقعات تتخللها سلسلة من الهضاب والكثبان الرملية والقلاع التي أقامتها قوات الاحتلال الفرنسي، وتمتد هذه المنشآت من منطقة السيدة زينب إلى شارع المبتديان فقام بتسوية تلك الهضاب والمرتفعات وردم البرك الخديوي إسماعيل فأصبحت هذه المنطقة من أجمل مناطق القاهرة الحديثة.

وكما كانت قلعة الجبل مقر الحكم طوال عهد الأيوبيين ثم المماليك ثم الحكم العثماني على مصر وحتى عهد محمد علي باشا، أصبح الأمر مختلفا حين جاء إسماعيل ورأى أن هذا الوضع لا يتفق مع أحلامه بإنشاء عاصمة مصرية في مقر عابدين ليجعله مقرا للحكم، وكان هدفه أن يحيا بين شعبه ولكن في قصر مختلف، ونجد أن موقع القصر على مشارف القاهرة الخديوية حيث الأزبكية ثم حي الإسماعيلية ثم جاردن سيتي.

وكان مقر قصر عابدين على غرار القصور الملكية الكبرى في أوروبا وكان يملك قصرا في نفس المكان عابدين بك، أحد القادة العسكريين في عهد محمد علي باشا، فاشتراه إسماعيل من أرملته وهدمه وضم اليه أراضي واسعة ثم شرع في تشييد هذا القصر العظيم، حيث طالب الخديوي إسماعيل قبل بداية البناء أن يتصل رجاله بكل من يملكون بيوتا في المنطقة المختارة ودفع تعويضات مجزية لهم ليتركوا المكان، وبدأ البناء عام 1863 وذلك هو العام الذي تولى فيه الخديوي إسماعيل حكم مصر واستمر البناء حتى عام 1872 وتكلف 665 ألفا و570 جنيها وكانت مساحة القصر والميدان الفسيح حوالي 9 أفدنة.

وعندما تم تنظيم منطقة عابدين تم أخذ بعض الجوامع وأزيلت بعض الحارات والبيوت والمنازل، ومنها جامع الزير المعلق الذي أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا، وجامع محمد بك المدبولي، وجامع الكريدي، وزاوية الشيخ شحاتة، وشارع التميمي، وزقاق الصيادين، وعطفة العلوة، وأصبح حي عابدين مركزاً للحكم العثماني حسب رغبة الخديوي إسماعيل.

ولم يكن حي عابدين مقرا للحكم فقط بل أصبح دائرة للحكم، حيث تجمعت حوله مقار النظارات أي الدواوين أو الوزارات، فتجد أنه في شارع الدواوين الذي يحمل إسم نوبار باشا حالياً مقر المصالح الحكومية والوزارات ومجلس الوزراء، حيث نجد مقر إسماعيل باشا المفتش وزير المالية كان مقراً لمجلس الوزراء قبل أن يتحول إلى وزارة المالية، ونجد أيضاً وزارة العدل والداخلية، وغيرها من المباني التاريخية التي يعود فضل بنائها لهذا العصر.

أما بيوت رجال السياسة فقد بنيت حول القصر، ومنها قصر سعد باشا زغلول، وحسين باشا رشدي، ومحمود باشا الفلكي، وغيرهم، وقامت أيضاً مقار الأحزاب الكبرى والقنصليات والسفارات، وأقيمت حوله أيضا دور الصحف الكبرى منها روز اليوسف والبلاغ، وعندما لم يتسع الحي لتلبية كل طلبات الجهات المتصلة بالحكم تم الاتجاه إلى الحي الجديد وهو جاردن سيتي، وأصبح الحي مقرا لسكن كل من يعمل بالمصالح والوزارات حتى لا يتحمل أعباء المواصلات، وسكن فيه أيضا معظم أبناء السودان والنوبة.

وفي عام 1881 كانت مصر تمر بأيام قاتمة تحت حكم الخديوي توفيق، وعهد إلى عثمان رفقي باشا بنظارة الجهادية أو الحربية حاليا، وهو شركسي متعصب، فتمت ترقية الضباط الشراكسة فقط، فاشتعلت بذور الفتنة العنصرية في الجيش على أوسع نطاق، حيث احتمل ضباط الجيش في عهد إسماعيل تأخر رواتبهم وتجاهل ترقيتهم، وألقي بهم في غياهب أفريقيا، وتشتت منهم الكثير في الحرب الحبشية التي خسرتها مصر، ونفد مخزون الصبر لدى أحمد عرابي، فتقدم مع علي فهمي وعبد العال، بطلباتهم إلى الخديوي، لعزل رفقي باشا من نظارة الحربية، بالإضافة إلى زيادة عدد الجيش المصري لكي يصبح 18 ألف جندي، طبقا للفرمانات، لكن ما حدث هو أن تم اعتقال عرابي وزميليه استعدادا لمحاكمتهم أمام المجلس العسكري في قصر النيل.

شاع هذا النبأ فزحف الجيش إلى نظارة الحربية، وتم إخراج عرابي بالقوة، وتوجه الجميع إلى سراي عابدين في سبتمبر 1881، وخرج لهم الخديوي توفيق، فطالبوه بعزل عثمان وتعيين صاحب السيف والقلم محمود سامي البارودي ناظرا للحربية، وإصلاح البلاد دستوريا، وتشكيل مجلس النواب على النسق الأوروبي، فأجابهم بعبارته الشهيرة: أنا ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي وما انتم إلا عبيد إحساناتنا، فرد عليه عرابي بمقولته الأشهر التي يرددها الطلاب في المدارس المصرية إلى اليوم: لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا عقارا أو تراثا، فلن نورث، ولن نستعبد بعد اليوم، وكانت هذه هي بداية شرارة الثورة العرابية الشهيرة، التي شهدتها مصر في ذلك الحين انطلاقا من ميدان عابدين.

وعندما انتهت الحرب العالمية الأولي في 4 نوفمبر 1918، كان حي عابدين أخطر أحياء القاهرة، خاصة بعد نفي زعيم الأمة ورفاقه، وقيام ثورة 1919، ففي سنوات الثورة لم يكن أهل عابدين آمنين على أنفسهم بسبب سكن بعض الجاليات الأجنبية معهم، مثل الفرنسيين والروس، الذين كان الإنجليز يتعاملون معهم ويعملون معا، وكان الأهالي لا يستطيعون فتح نوافذهم لأن هؤلاء الأجانب كانوا يطلقون عليهم النار داخل الحارات الضيقة التي لا يزيد عرضها على ستة أمتار.

ولأكثر من 80 عاما ظلت الأنظار في مشرق الأرض ومغربها، تتطلع إلى قصر عابدين، قبل أن تأفل أنواره، شأنه شأن كل شيء في الحياة، وفي هذه الثمانين عاما حكم هذا القصر الكثير من الحكام، وأولهم هو الخديوي إسماعيل، ثم الخديوي توفيق، ثم الخديوي عباس حلمي، ثم السلطان حسين كامل، ثم الملك فؤاد، والملك فاروق، وأخيرا الرئيس محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد قيام ثورة 1952.

لكن نجيب لم يمكث فيه طويلا، حيث قضي فيه عاما واحدا، ثم خرج منه عام 1954 إلى فيلا زينب الوكيل التي كانت تملكها حرم زعيم الوفد قبل الثورة، مصطفي النحاس في منطقة المرج، حيث حددت إقامته.

وبعد هذا خفتت الأضواء قليلا عن قصر عابدين، حيث لم يحب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهو يتحدث عن العدالة الاجتماعية والمساواة ومبادئ الاشتراكية، أن يسكن في قصر، ففضل أن يسكن في بيته في منطقة منشية البكري، وأمر بتحويل القصر إلى متحف ليرى المصريون كيف كان يعيش ملكهم السابق، بعكس الرئيس الراحل محمد أنور السادات الذي قرر أواخر عام 1970 أن يلغي الوضع المتحفي لقصر عابدين، واستخدمه كقصر رسمي يخص رئاسة الجمهورية.

أما الرئيس محمد حسني مبارك لم يجعله من القصور الملكية وأمر قبل نهاية القرن الماضي بسنوات معدودة بتحويل قصر عابدين إلى متحف تاريخي بمحتوياته النادرة التي تشهد علي فترة تاريخية مهمة في تاريخ مصر الحديث.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً