اعلان

اللص الذي سرق الله

كتب : أشرف ضمر

   ذات صباح صيفي- منذ عشر سنوات تقريبا- رأيت لصا يسرق الله شخصيا، كنت في إشارة مرور خانقة مستقلا تاكسي في طريقى الى وجهة لست أذكرها الآن، رأيت سيدة مسنة تجلس القرفصاء على الرصيف الذى توقف التاكسي بمحاذاته ربما يجد مترا من الفراغ الوهمى في هذا الصباح الخانق العبثي، جلست المسنة أمام صندوق خشبي عليه علب كبريت حمراء ومناديل ورقية ملونة، غفت المرأة تحلم ربما برجل طيب يشترى بضاعتها الرخيصة بجنيهات زهيدة ترحمها من شدة الحر وعوادم السيارات وضوضاء محركاتها المزعجة، ربما كانت تناجى الله وتسأله وتلح عليه في غفوتها القصيرة الخاطفة تلك أن يمد يده الحانية ويربت على شيبها وكهولتها، يستجيب الله فورا، ويرسل لها ملاكا بشريا - أمام عيني - فيضع لها ورقة بمائة جنيه تحت علب الكبريت، ويغيب الرجل في لحظات بين زحام المدينة، او ربما يصعد الملاك الى السماء بعدما انجز مهمته، لم تشعر المسنة بشيء وكأن الرجل/ الملاك قرر بمنتهى الرقة أن يساعدها ويسعدها من باب المفاجأة والدهشة، أو قرر ببساطة ان يرفع عنه وعنها الحرج، فأقدم على ما فعل، وما هى إلا ثوان معدودات حتى يأتى شاب أنيق لا تبدو عليه الريبة، بين شفتيه سيجارة مطفأة يفتش في جيوبه عن شعلة فلا يجد، يقع نظره على صندوق المسنة ويناديه الهلب المرسوم على مكعبات الكبريت الحمراء كأنه غريق يتعلق بهلب، يأخذ علبة كبريت، يشعل سيجارته، ويسرق المائة جنيه وينصرف بهدوء، بينما المسنة تغط في نومها العميق ما زالت تناجى خالقها، لا أعرف لماذا قفز ذلك الحادث الذي لم يستغرق دقيقة من الزمن الى ذاكرتى فجأة وأنا أشاهد وأعاين بل وأشترك أحيانا فى حروب ومعارك تخوضها أختى العزيزة فاطمة ناعوت التى أناديها سيدتي المبجلة، قد يختلف البعض او يتفق حول ما تطرحه لنا ناعوت من قصائد كشاعرة أو ما تقدمه من مقالات تفتش فيها عن جيناتنا المصرية المطموسة وتستنهض همتنا الغائبة وإنسانيتنا الهشة، لكن لا أحد يجادل او يختلف حول قامتها الإنسانية وفطرتها السوية وروحها النقية كمصرية تحمل في عروقها دماء وجينات حضارية تمارسها في سلوكها وتصرفاتها وحياتها الشخصية العادية جدا، بل ربما لمس خصومها قبل اصدقائها مدى رقتها ورقيها في الاختلاف، ومدى شرفها في الخصومة وخوض معاركها الثقافية والأدبية مع من هم دونها فكريا وثقافيا، لم تسئ إلى آحد بشخصه، لم تطعن عدوا من الخلف، لم تستعرض ثقافتها ذات يوم بل تهمس برقة امرأة مصرية فى أذن قارئها وتخبره معلومات تراها هى عادية وتصيبنا جميعا كقراء بالدهشة من سلامة لغتها وبلاغة بيانها وموسوعية ثقافتها، اذكر لها مقالا عن إصابتها يوما بحالة من تصلب رقبتها وكيف استعادت شريط ذكريات طفولتها لترى نفسها البنت التى داست دون قصد على رقبة قطة صغيرة نائمة، فأصابت القطة بالتواء العنق، وكيف ظلت ذكرى القطة تصيبها بتأنيب الضمير ووخز الروح النقية حتى باتت الذكرى عقدة نفسية أدت بها لتصلب مؤقت في رقبتها هي ايضا، فتكتب مقالا ترسله الى الله قبل المجلة والقراء لتعتذر من فعلتها غير المقصودة الى قطة الطفولة وتطلب العفو من تلك الروح البريئة، ثم تختم المقال بأنها مثل اي مصرية قديمة من حفيدات حتشبسوت ونفرتيتى وايزيس لم تؤذ حيوانا ولا طيرا، بل إنها حتى لا تسحق النمل إذا زار مكتبتها التى تضع على ارففها بجوار ما تضم من تراث الانسان القديم والحديث ومنجزه الفكرى والفلسفي والآدبي والحضاري، مصحفا شريفا وإنجيلا وتماثيل للسيدة العذراء ومجسمات لبوذا وكونفوشيوس، كما تملك مكتبة موسيقية جمعتها بفطرتها السليمة غير العنصرية، ليكتشف زائرها أنه أمام حالة انسانية فريدة من المحبة والسلام النفسي في مجمع الانسانيات هذا، امرأة كتلك لا بد ان تدق فوق رأسها طبول الحرب كل يوم، فكيف لها ان تحمل مشاعل الحق والنور والحرية في زمن الجور والظلام والعبودية؟! كيف لها ان تحارب القبح بجمال الموسيقى وروعة الشعر؟! كيف لها ان تسير مبتسمة فرحة فى مجتمع عبوس متجهم؟! فلنتصيد لها خطأ آو زلة لسان ونفسر حديثها العابر آلاف التفسيرات التى تدينها وتزج بها في غياهب السجن، فلنلفق لها الحكايات المخزية ونروج عنها وحولها شائعات تحطم اعصاب اشجع الفرسان وانبلهم، هل ترشحت لمجلس النواب لتحارب الفساد وتهدم ما دشنه نجوم ودروايش وشيوخ الانفتاح من طمس وتخريب وتجريف للهوية المصرية المحبة المتسامحة؟ حسنا هى التى جلبته لنفسها .. فاطمة تحارب الإسلام.. فاطمة تزدري الحجاب وتحتقر الحشمة بل تحب الكفار وتهنئهم بأعيادهم، انقذوا الإسلام من خطر فاطمة ناعوت، انها تتحداكم وترشح نفسها للتحدث باسمكم،... الى أخر تلك السهام المسمومة التى حتى وان لم تصب فاطمتنا فستبدد طاقتها في تلقيها وصدها وتشتيتها، وهو المطلوب في حد ذاته، وفى الحقيقة فالمقصود ليس فاطمة، فليس حبس اسلام البحيري ببعيد، ومن قبله تكفير نصر حامد ابو زيد ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، فكلهم من حملة مشاعل التنوير مستهدفون بصفتهم لا بشخصهم، فالنور يقلق ويزعج سكان الكهوف، بل لا أكون مبالغا لو قلت ان فكرة المرأة المثقفة اللبقة المتفتحة التى تسافر وحدها دون الحاجة لرجل يحميها هي القوية القائدة، فكرة تقتل البدو ورعاة الغنم والصحروايين وتستنهض فحولتهم الحيوانية اذ يجب ان تكون المرأة جاهلة غبية ساذجة مرتبكة تائهة بلا رجل تسافر بإذنه وفي حرمه، لا يفلح امر قوم ولوها أمرهم، تلك هى المرأة الخاضعة والزوجة الصالحة التى ترضي غرورهم البدوي الذى لم تهذبه حضارة ابدا، فكيف لمن عاش بثقافة الخيام والرحيل خلف الكلأ والإغارة على الجيران من أجل بئر او نخلة او جارية ان يسمع الموسيقى ويتذوق الفنون ويتعاطى الثقافة ويشيد حضارة قائمة على العدل والحق والمحبة والتسامح واحترام المرأة كإنسان لا متاع؟ كيف لقطاع الطرق وقتل الآخر المختلف عنهم ان يفهموا محبتنا نحن الاقباط أهل مصر لبعضنا البعض؟ كيف لهم ان يتخلوا عن عنصريتهم الفارغة ونعراتهم البالية ويتعاملوا بمقاييس انسانية مطلقة ومجردة كما امرنا الله فى جوهر كل رسالاته السماوية الينا حيث افعل الخير ولا تفعل الشر؟

الله معنا يافاطمة ولتكن حربا ضمن حروبنا العاجية التى خضناها يوما بلا يأس من أجل الحرية المدفوعة مقدما والمسدد ثمنها كاملا من دماء شهدائنا الأبرار، سندير الطاولة ونبدل الأدوار الآن، سنأتيهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون لنشغلهم ونبدد طاقاتهم فى الدفاع عن أنفسهم كما ارادوا لنا ان نفعل، وعلى من يتهم شرفاءنا بالباطل ويقصف محصناتنا بما ليس فيهن، عليه ان يخرج على الملأ ليقول ذلك، فإن لم يملك من الشجاعة ما يجعله يواجهنا الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان والمنطق بالمنطق فليذهب للجحيم بكل وثائقه المفبركة التى يروجها مثل اي وعل بائس تعي ينطح وتدا من أوتاد الله بقرنيه العظيمين، وليعلم ان اصغر مراهق يحصل على مصروفه اليومي من أمه ليبدده في أصغر سايبر نت في حي شعبي، يستطيع أن يفبرك وثيقة زواج الملكة إليزابيث بالواد عبده شلاطة سواق التوك توك في الحى الشعبي ذاته.. وليعلم أيضا أنه مثل لص المائة جنيه الذى سرق الله شخصيا.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً