اعلان

أم حسن في الكنيسة

في مطلع القرن قبل الماضي وهناك في أقصي جنوب الصعيد، جلس جدي الكبير مع جدتي في صحن البيت خمس دقائق فقط، ثم قام علي دعواتها ليبدأ رحلته المقدسة لأداء فريضة الحج متوجها إلي بيت الله الحرام والمسجد النبوي مرورا ببيت المقدس، حيث صلي في المسجد الأقصي ومسجد قبة الصخرة وألقي سلاما مقيما علي "كنيسة القيامة"، ثم عاد بعد عامين يردد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء). وفي النصف الثاني من القرن الماضي كانت جدتي لوالدي تسكن منطقة "مصر القديمة" وكانت لها جارة يناديها الجميع بـ (الحاجة أم حسن) كانت أم حسن قد أدت فريضة الحج سبع مرات، هذه السيدة كان كلما ألمت بها وعكة صحية تذهب لزيارة الكنيسة مع جارتها القبطية (الست أم يوسف)، وما أن تدخل الحاجة أم حسن إلي الكنيسة إلا وتشعر بتحسن كبير في حالتها كنوع من الراحة النفسجسدية بوصولها لحالة روحانية عالية... حكت لي جدتي الكثير عن زيارتها هي وجارتيها أم حسن وأم يوسف للكنائس وكيف كنّ يتعاملن كشقيقات وربما أكثر، ولم تفكر إحداهن في أن هذه مسلمة وتلك مسيحية!! هؤلاء الأجداد الذين تحدثت عنهم لم يكونوا من المتعلمين، ومع ذلك كانوا يفطنوا لقيمة تلك الروح السمحة التي أمر بها الله، أما الآن فالمتعلمين وأصحاب أعلي الشهادات لا يعرفون هذه القيمة الإنسانية!!! ومنذ ما يزيد عن الثلاثين عاما جلس المستشار "حكيم منير صليب" علي منصة المحكمة، قاضيا في قضية من أخطر القضايا، إنها القضية رقم 101 أمن دولة لسنة 1977، فالتهمة الموجهة للمتهمين فيها و البالغ عددهم 176 متهما لم تكن تهمة عادية بل كانت "محاولة قلب نظام الحكم" وحتي تلك التهمة برغم خطورتها لم تكن هي أخطر ما في القضية، وإنما كمنت الخطورة في أن هيبة النظام الحاكم بأكمله قد انهارت بعد مظاهرات 18 و19 يناير.. أو ما أطلق عليه "انتفاضة الخبز"، كان من ضمن المتهمين د.رفعت السعيد وحسين عبدالرازق والكاتب الصحفي عبدالقادر شهيب، والشاعر سمير عبدالباقي... لم يفرق المستشار "صليب" بين مسلم ومسيحي، لم يبرئ المسيحيين ويحكم علي المسلمين، بل أصدر حكما بالبراءة علي جميع المتهمين مسلمين وأقباط، فالخبز أكل الجميع، ومصر وطن الجميع، لا فرق بين من يحمل القرآن ومن يعلق الصليب في عنقه!!

لقد أقر الإسلام المفاهيم الجامعة لحقوق المواطنة فكان له السبق فى ترسيخها و تطبيقها على نحوٍ أكثر شمولأ و تسامحا من كافة الدساتير و القوانين التى عرفتها الأنظمة القانونية فى البلدان التى يعتنق أهلها أديانا غير الإسلام ، إلا أن لكل حق ضوابطه و حدوده، وهذا لا يعني أبدا أن تضع الدولة قيودا حديدة على "قانون بناء الكنائس" حيث شكل الصدام الأول بين الدولة والكنيسة، المعترضة على بعض البنود الواردة في القانون، على الرغم من مراجعته 14 مرة خلال الفترة الماضية.. الخلاف الأخير بين الطرفين، جاء بعدما أدخلت الحكومة تعديلات وصياغات على المسودة الـ13 للقانون، بعد موافقة الكنيسة عليها. وفي مسودة القانون التي عدلتها الحكومة ألغام عديدة، منها الجُمل المطاطة على غرار ربط موافقة محافظ الإقليم برفض أو قبول بناء كنيسة، بعد استطلاع رأي "الجهات المعنية"، من دون إيضاح ماهية هذه الجهات، وحدود دورها واختصاصاتها.. ومتى توافق ولماذا ترفض؟ وقد ذهب أغلب المهتمين إلى أن هذه الجهات المعنية هي "الجهات الأمنية".

بناء الكنائس في مصر أزمة معقدة، يختلط فيها الديني بالسياسي بالأمني. فوفقاً للقانون، يخضع بناء الكنائس للخط الهمايوني، الصادر إبان تبعية مصر لدولة الخلافة العثمانية، والشروط "العزبية"، نسبة إلى وكيل وزارة الداخلية في الحقبة الملكية "عزبي باشا"، الذي وضع 10 شروط لبناء الكنائس، تتعلق ببعد الكنائس عن بعضها البعض، ومساحتها، وبعدها عن خطوط السكك الحديدية وترع وقنوات الري، ووجودها بين مساكن المسلمين، وشروط أخرى.

جرى العرف ولفترة طويلة، وفقا لتفاهم غير مكتوب بين الأجهزة الأمنية والكنيسة، أن يسمح الأمن للمسيحيين ببناء دار خدمات، يؤدون صلاتهم فيه، أو أداء الصلاة داخل منزل أحدهم، من دون بناء كنيسة. ويستقر الأمر على هذا، قبل أن تندلع مشكلة طائفية بين مسلمي المكان ومسيحييه، بسبب رغبة المسيحين في تحويل دار الخدمات إلى كنيسة لها "برج وجرس" وفقا لروايات تكررت كثيراً من الطرف المسلم، في مقابل روايات أخرى للطرف المسيحي تنفي هذا الإدعاء، وتتهم من هاجموا المكانن بالطائفية والعنصرية، وهي حوادث تكررت كثيراً، تحسم في نهايتها، برفض تحويل دار الخدمات إلى كنيسة.

يرد البعض ذلك الى الخوف من تغيير الهوية المعمارية "العربية/الإسلامية" لمصر، من خلال التمدد والتوسع في بناء الكنائس، وهنا لنا وقفة، منطقة "مصر القديمة" والتي بني فيها أول مسجد في مصر جامع "عمرو ابن العاص" هي ايضا موجود بها أقدم واهم الكنائس ذات الطابع المعماري الفريد مثل "الكنيسة المعلقة" ومرت قرون من الزمن على ذلك ولم تتأثر الهوية المعمارية، بل أن منطقة مصر القديمة تعد واحدة من أكثر الأحياء المصرية ألفة ومحبة بين ساكنيها وقد ضربت المثل بجدتي وجارتيها، ومازال الحال على ما هو عليه فالاحفاد لم يختلفوا كثيرا في طباعهم عن الأجداد.

لا داعي للدخول في دوامة الفتنة الطائفية والتعصب الأعمى، فلا ضرر من بناء كنائس ذات أبراج وأجراس، ولا ضرر من وجود دور عبادة اسلامية ومسيحية في نفس المنطقة، كل ما في الأمر انها البيروقراطية المصرية التي لازالت تعبث بمقدرات هذا الشعب.. مصر هلال وصليب، مصر محمد وجرجس ولم ولن يفرق أحد بين قطبي الأمة. علينا أن نحذر ونحتاط من الدخول لحلبة الصراع الطائفي، وإلا فلن يفيد البكاء علي اللبن المسكوب.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً