اعلان

نوكيا.. الوطن كمرادف للفراغ أو الموت

محمود الغيطاني

نلاحظ أن الأعمال الروائية التي تهتم بانكسارات المواطن داخل وطنه وما يؤدي به ذلك إلى موت حقيقي- سواء كان هذا الموت داخل حدود الوطن أو خارجه- كثيرة، ولعل هذا ليس من الأمور الغريبة على الروائي؛ لأنه من أكثر المواطنين تأثرا بما يدور حوله.

صحيح أن الروائي ليس بسياسي، أي أنه لا يستطيع أن يدلو بدلوه في الأمور السياسية بشكل واضح، كما أنه يبدو غير مهتم بالسياسة، لكن المبدع في نهاية الأمر شخص متفاعل له وجهة نظر وحساسية بالغة يجعلانه يتأمل ما يدور حوله ويختزنه بصمت غير راغب في إبداء الرأي السياسي المباشر، وإن كان يظهر هذا فجأة من دون أي مقدمات في مجاله الإبداعي من خلال الرواية أو القصة أو الشعر، أو حتى لوحته التشكيلية أو فيلمه السينمائي.

هذه الحساسية المفرطة التي يتميز بها المبدع هي ما تجعله إما ناقما على ما يحدث حوله من خلال افتعال الضجيج الإعلامي؛ فيظل يرغي ويزبد بشكل مباشر؛ يفتقد للشكل الإبداعي، أو باختزان كل ما يدور حوله من خراب؛ ليخرجه في النهاية بشكل أدبي وقد انصهر في بوتقة الفن والإبداع؛ مما يجعلنا نتأمل بعمق ما يدور حولنا وقد التهمنا الحزن على ما تفعله الأوطان بأبنائها وكأنها تأكلهم بدلا من أن تحنو عليهم.

رأينا مثل هذه الحسرة والانكسار الكامل بشكل هائج كموج البحر في قصيدة الشاعر والمسرحي الراحل نجيب سرور "الأميات" وغيرها من أعماله الشعرية والمسرحية منها ديوانه "لزوم ما يلزم"، وهي الأعمال التي عبر فيها عن قسوة هذا الوطن على أبنائه، كما رأيناها لدى الروائي والشاعر العراقي يوسف الصائغ في روايته المهمة "السرداب رقم 2"، والروائي السعودي عبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط" وغيرها من الأعمال، كما رأيناها بشكل قاس عند الروائي السوري مصطفى خليفة في روايته المهمة "القوقعة.. يوميات متلصص"، وعند صنع الله إبراهيم في معظم رواياته تقريبا، وهذه الأعمال إن كانت تعبر عن أدب السجون أو المعتقلات والتعذيب والهوان للعديد من المواطنين الذين لم يفعلوا شيئا سوى أنهم انتموا لأوطانهم وأرادوا الخير له في نهاية الأمر؛ مما يتعارض مع مصالح السلطة، إلا أنها تعبر بصدق عن هوان أبناء الوطن عليه ومحاولة التنكيل بهم حتى الموت، سواء كان هذا الموت على المستوى الواقعي أو المستوى السيكولوجي الذي يُعد أكثر قسوة من الموت الحقيقي، ولعلنا رأيناه أيضا في السينما المصرية بشكل قاس في فيلم "قص ولزق" للمخرجة هالة خليل 2006م، وهو الفيلم الذي صور حالة اليأس والضياع والهوان التي يعانيها الشباب المصري داخل وطنهم.

في رواية الروائي السوري باسم سليمان نرى الموت واليأس متجليان بشكل حقيقي وواضح على المستويين الواقعي والنفسي سواء؛ فالوطن دائما ما يأكل أبناءه وينكل بهم، وكثيرا ما يتركهم في الفراغ الذي يؤدي بهم إلى موتهم مهما حاولوا مقاومة هذا الفراغ بكافة الأساليب، سواء كانت هذه المقاومة عن طريق السخرية، أو الهروب إلى الخيال من خلال العالم الافتراضي، أو ممارسة العادة السرية، أو الجنس المفرط، أو حتى التغيب بالكحول، أو محاولة التغلب على هذا الفراغ من خلال العمل، لكن المحصلة النهائية تكون إما الكفر بهذا الوطن ومحاولة الهروب منه بالاتجاه إلى جغرافيا بديلة تستطيع الاحتفاظ للمواطن بكرامته، أو بالبقاء في الداخل والاستسلام لكل الظروف المحيطة؛ الأمر الذي يعمل على تحويل المرء إلى مجرد كائن شائه يأكل كل من حوله، حتى يأكل نفسه في نهاية الأمر، أي أن ما يدور حولنا في المنطقة العربية كلها لابد سيحول الكثيرين منا إلى كائنات مشوهة في النهاية تعمل على تدمير نفسها قبل تدمير الآخرين من حولها.

يعمل الروائي السوري باسم سليمان على تصوير هذه المأساة مع الوطن، وكيف يعمل الوطن بشكل ممنهج- يكاد يكون متعمدا- على قتل كل ما هو جميل فيهم ليتركهم في الفراغ الكامل الذي يكاد أن يأكلهم أو يدفع بهم نحو هاوية الانتحار؛ ولعل هذا كان جليا منذ بداية روايته حينما يتحدث عن ثلاثة أصدقاء هم باسم، ومحمود، ودانيال؛ فيفتتح الرواية برهان بينهم على أن العضو الذكري الذي لم يختن هو الأفضل في الجنس من العضو الذي تم ختانه؛ الأمر الذي يجعلهم يذهبون إلى داعرة محترفة في مدينتهم، طرطوس، كي يأخذوا رأيها في هذا النقاش الذي يبدو لهم وكأنه معضلة كونية؛ مما يدل على فراغهم الحقيقي؛ فهم هنا ليسوا مجرد مجموعة من الأطفال الذين يتراهنون على الأمر، بل مجموعة من الشباب الذين تخرجوا من جامعاتهم وأكلهم الفراغ، وعانوا من الحياة في كنف الأهل عالة عليهم من دون عمل، فيقول في مفتتح روايته: "عضوك سيف مغمود، أما أنا ومحمود، فسيفانا قد شهرناهما منذ الشهر الأول لولادتنا، لذلك يحق لنا الزواج بأربع، فهما قد تنطعا للقراع منذ نعومة أظفارهما. هذه الأفضلية يجب أن تقرّ بها، أما مزايداتك والميزات التي خلعتها على زائدتك اللحمية- من سهولة ممارسة العادة السرية بلا بصاق أو صابون، وما تُؤمنه من متعة أكبر بسبب مساحة الجلد المكتنز بالنهايات العصبية، وأن الممارسة لديك باثنتين مما لدينا- فالواقع يكذبها ولا تنفعك، فلا يتساوى السيف المثلّم من كثرة الضراب والسيف الصدئ في غمده، حتى أنك تستطيع معرفة شهرة أعضائنا من ولع النساء الغربيات بها، والعناء الذي يتكبدنه ليحظين بمضاجعة من يشتهر بجعل أربع نساء ينمن وهن منهكات الفروج، أضف إلى ذلك ما قرره الطب من منافع الختان".

هنا نلاحظ منذ السطور الأولى في متن الرواية أن هناك فراغا حقيقيا يدفع ثلاثة من الشباب المكتملي الرجولة إلى الحديث في هذا الأمر باعتباره قضية كونية تهم العالم، بل هي وجودية بالنسبة لهم؛ لذلك يتجهون ثلاثتهم إلى "رغدة" الداعرة الشهيرة في مدينتهم طرطوس ليسألونها في الأمر باعتبارها امرأة مجربة: "سيدتي المحترمة، أرجو منك أن تستمعي إلينا، فنحن - والله- لا نريد إزعاجك، لكن للضرورة أحكام، وأنت الوحيدة القادرة على إجابتنا وإلا صداقتنا مهددة بالزوال. كان وجهها الناعس قد استيقظ تماما، وعلته غرابة المستيقظ من كابوس. في تلك اللحظة دفعتُ بالمئة والخمسين ليرة أمام بطنها، وتابع داني: وهذا ثمن الجواب". لعل هذه البداية الذكية نجح من خلالها الروائي في إضفاء الفراغ الذي يريد تصويره والذي يسبح فيه ثلاثة من الرجال الذين أنهوا تعليمهم ولا يجدون أي وسيلة لإزجاء وقت فراغهم سوى ممارسة العادة السرية أو مضاجعة النساء، أو الرهان على أن العضو الذكري المختون أو غير المختون هو الأفضل، فضلا عن تغيبهم الدائم في الكحول معظم الوقت وسخريتهم مما تعلموه في الجامعات وما قرأوه من أعمال فكرية وأدبية.

هذا الفراغ يؤدي بهم إلى الانشغال بالأفكار والهواجس الجنسية في كل شيء، حتى أن حياتهم بالكامل من الممكن ردها في نهاية الأمر إلى دلالات جنسية؛ لأنهم لا يجدون ما يفكرون فيه أو يشغلهم غير ذلك؛ فنرى داني: "اشترى جريدة، في الصفحة الأخيرة خبر عن "أنجيلينا جولي" و"براد بيت"، وولد جديد يدخل حظيرة التبني، أنظر لشفتيها، وأتذكر فيلما لها مع "أنطونيو بانديراس"، كيف احتمل أن تكون عارية بين أحضانه، لا ريب أنه خدر عضوه، تحتاج هذه الحياة لمخدر دائم"، ولعل الجملة الأخيرة في هذا الاقتباس: "تحتاج هذه الحياة لمخدر دائم" من الجمل الدالة على عدم احتمال هذه الحياة التي تجعلهم أقرب إلى الأموات منهم إلى الأحياء، كذلك فالاقتباس بالكامل لا يخرج عن كونه مجموعة من التساؤلات المراهقة المثيرة للابتسام المتحسر على ما يحدث لهم؛ لذلك نرى باسم يقول: "داني، يحلم بالهجرة، أوراق الهجرة أودعها في السفارة الكندية، مضى عليها سنة كاملة، أما أنا فلا أعرف هجرة، ولا تجذرا كمحمود".

التجليات والأحلام الجنسية هنا تتجلى بشكل أكبر لدى باسم المرتبط بعلاقة جنسية افتراضية مع لمياء؛ فيمارس معها كل ألوان الجنس من خلال شبكة الإنترنت لينتهي بهما الأمر إلى ممارسة العادة السرية أمام بعضهما البعض وكأنهما أشبعا بعضهما في النهاية بهذا الشكل الخيالي المريض، أي أنهما يعيشان الوهم الذي أدمناه؛ ومن ثم ترفض لمياء اللقاء معه في غرفة منفردة من أجل ممارسة حياتهما بشكل طبيعي رغم لقائه بها أكثر من مرة في الأماكن العامة، مبررة ذلك بأنها تعشق الخيال والتخيل أكثر من الواقع، وهنا نلاحظ أن الشخصيات كلها قد باتت مريضة بشكل مزمن لا حياة فيه: "تصلني رسالة من لمياء، أظنها ستكون سعيدة لعدم طرحي موضوع غرفة محمود من جديد، فمحمود لن يقبل أن تكون غرفته موضع شك لدى جيرانه، سيحافظ على سمعتها فعليا كما يقول؛ لأن عليا ستكون زوجته. أقرأ رسالتها على عجل، لولا طاولات المقاهي التي جمعتني بلمياء لقلت إنها من نسج الخيال، أو شخصية رقمية تعيش داخل الكمبيوتر. التقطتني من غرفة محادثة إلى سماعة هاتف، فلقاء وكلام، دم ولحم في الكلمات فقط. من جديد تبدو الكلمات هي عالمي سواء كانت مكتوبة أم منطوقة، كلمات ليس لها قدرة إلا على خلق سراب في لحظة القذف التي يرتعش خلالها جسدي. لمياء أنثى من تخييل، تكره الجوانب الواقعية بعلاقتنا، فعمرها الذي تزيدني به، وانتهاء دورة خصبها، وتهديد الواقع لها لحظة اختياري لأنثى أقرر معها إنشاء أسرة كأي رجل، أسباب تكفي – كما ترى لمياء- للقضاء على جانب الخيال في التخييل"، هنا بات الجميع مجرد كائنات شائهة تحيا في الخيال فقط، وكأنهم ظلال لآدميين قد ماتوا، أو تشوهوا، ويعود هذ التشوه إلى الوطن الذي تخلى عنهم ونسيهم تماما وكأنهم غير موجودين، تماما كما تناساهم الرب في غمرة انشغاله بملكوته، وهذا ما يؤكد عليه الروائي في روايته على لسان باسم حينما يقول: "قالت لي: إنها تحتفظ بكل محادثاتنا، وبأصوات آهاتي، وصور عضوي، وستبقيهم لتعتاش عليهم، وتبقى نار خيالها متقدة. قلت ساخرا عن سر هذا الاحتفاظ: يوما ما ستقيمين متحفا، وسيبيع ورثتك مقتنياته كأول وثائق واقعية لعلاقة عاطفية شبه افتراضية عندما يسود الافتراض بدلا من الواقع في عالمنا، لذلك سأكتب وصية أطالب فيها بتلك المقتنيات".

ربما بسبب هذه الحياة الفارغة الافتراضية الملتهبة بالجنس الخيالي باتت حياة باسم بالكامل حياة غير حقيقية بالفعل؛ لذلك يتساءل: "ماذا سيكون شكل ابني في المستقبل؟! سيشبه موبايل "نوكيا"، وسيعلن وجوده على يد الطبيب الذي سيشق بطنها، فأنا أريد العملية القيصرية ليس لكي يصبح ابني قيصرا ويحرق روما/ بيتي، بل لأني لا أريد له أن يوسع فرج أمه، ويصبح عضوي كراية ترفرف في الهواء عندما يدخله، فليخرج من شق في بطنها هذا أفضل له، فالخروج من نفس الطريق الذي رُشق في البداية بسهم من الحيوانات المنوية سيكون سيئا لنفسيته"، وفي مقطع آخر أكثر أهمية ودلالة على الحياة التي وصل إليها باسم يقول: "سيمسكه الطبيب من قدميه، وسيصدر لحن "نوكيا" المعتمد من قبل الشركة، وسيكون له أوضاع متعددة من الصامت إلى الهزاز فالصائت، أشعر أن شركة "نوكيا" بكل أفرادها ضاجعوا لمياء، ونسبوا هذا الولد لي، ستسعى لمياء جاهدة لتأمين حفاظاته من أحدث قوالب "النوكيا"، وستضعه ببيت جلدي، وتعلق به أحجارا كريمة. بين فترة وأخرى سأعيد برمجته من جديد "بضبط المصنع"، ولا تعنيني التحذيرات التي تقول: بأن الأسماء والرسائل ستضيع، هكذا سأحافظ عليه نقيا"، هنا يتضح لنا أن الفراغ والواقع الافتراضي الذي أدمنه كل من لمياء وباسم قد جعلهما يعيشان في حالة خيالية بعيدة تماما عن الواقع؛ حتى لكأنهما قد ماتا بالفعل وعاشا في لون قاس من ألوان الخيال القاتل؛ فهو من فرط حياته داخل الخيال الرقمي مع لمياء وإصرارها على هذا الخيال قد بات يرى العالم من خلال موبايله "النوكيا" الذي يحمله، حتى أنه يتصور أن جميع العاملين في شركة "نوكيا" قد شاركوه لمياء في لقاءاتهما الرقمية غير الواقعية، ولعل ما يزيد من وطأة الأمر على باسم أنه نتيجة تعطله عن العمل والبحث عنه مع صديقيه كثيرا من دون جدوى، وتقديمهم للوظيفة غير مرة قد أدى ذلك به إلى الحياة كعالة على أبوية وكأنه مازال طفلا قاصرا يأخذ مصروفه منهما.

هذه الكارثة في البطالة جعلت من دانيال أيضا عالة على أبويه، كما أنه ينظر دائما إلى أبيه باعتباره إلها بما أنه يعيش من خلاله حتى بعد تخرجه من الجامعة، وهذا ما يجعله يندهش حينما يتصرف أبوه تصرفا إنسانيا طبيعيا؛ مما يشكل له أزمة وجودية حقيقية: "لقد سمعته، لم أره، لكن ما من أحد غيره في الصالون، لذلك حسمت أنه هو، لقد ضرط، أتعرف ماذا يعني أن يضرط أبوك؟! إنه اكتشاف يُعادل اكتشاف جاليليو لدوران الأرض حول الشمس. عود ثقاب اشتعل في حقل التقديس اليابس، ولم ينطفئ إلى الآن"، لذلك حينما يختلي ذات مرة بصديقيه أمام البحر يتساءل: "باسم، هل تضرط الآلهة؟ وجّه سؤاله نحوي، كنا جالسين سوية على الصخور التي وضعت لتكسر الموج، الموج الذي صار يموت قبل أوانه يصطدم، لكن لا شط يتشكل! يبدو أن نهاية الموجة أو جثتها حبة رمل، فالشاطئ مقبرة جميلة ليت مقابر البشر كالشواطئ! ما بك؟ تنبهت أنني لم أعز سؤال داني أي اهتمام: نعم تضرط الآلهة وما الـ "big bang" لحظة تشكل الكون إلا ضرطة كبيرة، وهذا اكتشاف يُحسب لي، وإذا نقلته فعنعنة عني"، هنا نلمح السخرية من كل شيء، والأزمة الحقيقية التي يعيشها دانيال. كما أنه يحب فتاة مسيحية مثله لكنه يتساءل دائما: "كيف ستضاجع أنثى تصوم أكثر من مئتي يوم في السنة، بالإضافة إلى أيام الصوم المفروضة؟!"، نتيجة تدينها وعدم اهتمامها بالحياة قدر اهتمامها بالكنيسة والرهبنة، فضلا عن أنه لا يجد عملا هو الآخر ويعيش في بيت أبيه؛ مما يجعله راغبا في الهجرة إلى كندا بأي سبيل من السبل، وهو الأمر الذي سيحققه في النهاية ليترك الوطن الذي أدى به إلى كل هذه الانكسارات والتشوهات النفسية.

إنها الانكسارات التي تدفع دانيال إلى السخرية من كل شيء عرفه في حياته، ويحاول الخضوع للواقع الذي يعيشه كشكل من أشكال الحلول المؤقتة؛ فيعمل في صناعة الأبواب الخشبية: "يستيقظ داني، يسرع في ارتداء ملابسه، لا يُعير كلام أمه عن الفطور أدنى اهتمام، ويخرج، يسرع ليقطع شارع الثورة، يركب "سرفيسا": تأخرتُ. عندما وصل إلى عمله، قال له سركيس ومن دون مقدمات: امسك ورق الحف، وابدأ بهذا الباب الذي على يمينك. تنبه أنه لم يُحضر ثيابا بالية للعمل، لكنه بدأ الحف، وتصاعد الغبار.. هذا الغبار يُشبه نظيره المتصاعد من كتب التاريخ عندما ينفضها التأويل، وعلم التاريخ المقارن"، يتبدى من خلال هذا الاقتباس الأزمة التي بات يعاني منها دانيال المتعلم الذي قرأ كتب التاريخ وتخرج في كليته كمعلم للتاريخ ورغم ذلك بات عالة على أهله إلى أن عمل في صناعة الأبواب الخشبية لمحاولة الخروج من هذه الأزمة بشكل مؤقت لحين الموافقة على أوراق الهجرة إلى كندا.

لذلك نلمح سخرية سركيس الذي يعمل معه دانيال حينما يقول: "بدا الباب صقيلا أملسا جاهزا لرشه وطلائه بعدة أنواع من الدهانات الشفافة. سركيس يدخن سيجارته، يشرب شايه الأسود السميك من كثرة السكر فيه، يجلس على عبوة دهان كبيرة في الوقت الذي أتأمل فيه الباب: ماذا يا أستاذ التاريخ، وكأنك لم تر يوما بابا. ما أكثر الأبواب إنها كالتاريخ الذي نعرفه، نظل نُصقله، ونزيل عنه نتوءاته، حتى يبدو كهذا الباب، لكن صوت الصرير سيظل"، إنها السخرية من نفسه وسخرية سركيس أيضا منه، وكأنه يقول: إن كل كتب التاريخ التي قرأتها، وكل ما تعلمته لا فائدة منه في نهاية الأمر، ولولا عملك معي في صناعة الأبواب؛ لمت جوعا من دون أن ينتبه إليك أحد في هذا الوطن.

هنا تتجلى أزمة الصديق الثالث محمود الذي فضل أن يعمل بائعا للملابس النسائية في الشارع، فعمل على تأجير غرفة كي يعيش فيها بعيدا عن نظرات الأهل وسطوتهم، وبنى كشكا بشكل عشوائي في السوق ليعتاش من خلال بيع الملابس النسائية، وهنا راجت تجارة محمود وبات هو الوحيد المستقل في حياته التي بدت للآخرين أنها حياة سعيدة رغم بؤسه النفسي الذي جعله يترك كتابة الشعر بعدما كان ينشره في العديد من الدوريات، وأراد فجأة أن يكتب رواية أثناء تواجده في كشكه الخشبي الذي يبيع من خلاله الملابس، ولكن رغم موافقته على هذا الوضع غير المرضي بالنسبة له لم تتركه السلطة ولا الوطن يعيش كغيره، بل جاء رجال الشرطة من خلال مجلس المحافظة من أجل إزالة المنطقة بأكشاكها كلها، ولأن هذا يعني انهيار الحياة تماما بالنسبة لمحمود فقد حاول أن يقاوم الشرطة: "عندما أتت الجرافة اندفع محمود حاملا عصا، وبدأ يضرب بها الهيكل الحديدي للجرافة، حاول أحد رجال الشرطة منعه فدفعه أرضا، بعد ذلك اعتقل محمود"، هنا تتبدى القسوة الحقيقية للوطن الذي يتناسى أبناءه، وحينما يحاولون أن يتحايلوا على الحياة من أجل العيش فيها بكرامة لا يتركهم الوطن يحققون أقل الأحلام فيبيدها لهم تماما، ورغم أن محمود قد بات على شفا الاستقرار والرضى بالأمر الواقع بعدما راجت تجارته واستقل في حياته وتعرف على عليا التي ارتبط بها في علاقة حب تمهيدا لزواجهما إلا أن إزالة الكشك قد قضى على كل أحلامه في حياة كريمة يستطيع من خلالها احترام ذاته، بل وبات مهددا بالسجن أيضا بتهمة الاعتداء على ضابط شرطة؛ الأمر الذي جعله يرغب رغبة قصوى في تعلم السباحة رغم أن لديه فوبيا مرضية من الماء: "محمود ابن طرطوس لا يحب السباحة، ويكره الماء، لم تنجح كل المحاولات "الفرويدية" لكشف سبب هذا الخوف. يكره الماء فحسب، اتصل وقال لي: لست مشغولا، علمني السباحة، صرختُ: السباحة!"، هنا أراد محمود تعلم السباحة رغم خوفه المرضي من الماء، وكان السبب الأساس لمحاولة التغلب على هذا الخوف هو الرغبة في الهروب من هذا الوطن القاسي على جميع أولاده، الوطن الذي يأكلهم ولا يترك لهم الفرصة في الحياة بأي شكل: "خرجنا إلى الشاطئ، حتى هذه اللحظة لم أسأله عن التغير المفاجئ، ورغبته بتعلم السباحة، لم أفهم إجابته سريعا: ربما سأحتاج لها! أفكر في سبب حاجته للسباحة. بدأ يسبح أعمق فأعمق، أراقبه من الشاطئ، وكأنه في تمرين، يأكل وينام ويسبح، يذهب معي أو بدوني"، هنا كان كفر محمود بالوطن والرغبة في الانفصال الكامل عنه والموت بعيدا عن وطن يأكل أبناءه، كما أن دانيال يرغب في الهجرة هو الآخر إلى كندا بعيدا عن هذا الوطن الذي يهينه، وبعيدا عن سلطة الأب الذي يعيش عالة عليه، ولم يبق سوى باسم الذي يعيش الخيال كبقايا إنسان مشوه مع لمياء.

لكن رغبة محمود في الهروب من الوطن القاسي قد أدت بالفعل إلى موته: "خبر على قناة تليفزيونية يتناول قضية الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من دول شمال إفريقيا وحوادث الغرق التي ينتهي إليها مصير المهاجرين غير الشرعيين. وجه محمود توسط الشاشة، أزرق كحالته عندما تركته وسط الموج وهو يضرب الماء بشدة، كنت أضحك فيما كان يطفو ويغوص إلى أن توقف عن الظهور"، ورغم أن باسم قد عرف ورأى بعينيه موت صديقه أثناء محاولته الهروب من الوطن بشكل غير شرعي، إلا أنه فضل ألا يخبر أي أحد بما يعرفه؛ ومن ثم لم يقل لدانيال الذي جاءته الموافقة على الهجرة إلى كندا، كما لم يخبر عليا- حبيبة محمود- الحامل منه والرافضة لأن تجهض نفسها بعدما ظنت أن محمود قد هجرها وسافر متخليا عن مسؤوليته في الجنين الذي في أحشائها.

يوغل باسم سليمان أكثر في التعبير عن قسوة هذا الوطن على أبنائه حينما يأتي على موت محمود غرقا أثناء محاولته الهروب من الجحيم الذي يحياه، وحينما يجعل دانيال يهاجر إلى كندا، ويظل باسم المتعطل، العالة على والديه وحده، هنا يبدأ باسم في التشوه الحقيقي أكثر مما كان تشوهه العادي في الحياة الافتراضية مع لمياء؛ فيقطع علاقته بلمياء تماما، ويبيع هاتفه النوكيا ويستبدله بآخر ليقطع أي علاقة بينه وبينها، ويبدأ في نسج علاقة مع عليا حبيبة صديقه محمود والحامل منه؛ فيغتصبها في غرفة محمود الغائب موتا حينما تخبره بأنها لا ترغب في الإجهاض وتطلب منه أن يتزوجها وينسب الجنين له مقابل أن تعطيه مبلغا ماليا كبيرا، ومن ثم تستسلم لاغتصابه لها، وهنا تعمل عليا على التقرب أكثر لباسم بعدما استولى على غرفة محمود وحاول تنظيفها من أي شيء يخص صديقه، وأن يمحوه تماما من ذاكرته وكأنه يكرهه، فأخذ الغرفة، والمال الذي تركه محمود، بل أخذ حبيبته وجنينه أيضا، وبات يكن كراهية لا مثيل لها تجاه محمود وكأن الصديق هو السبب في حالة باسم؛ لذلك يستسلم تماما لعليا حينما تمارس معه الجنس: "بقينا سوية إلى المساء، مارسنا الجنس عدة مرات، تكلمتْ وهي تسند رأسها لصدري: يلزم الطفل عدة رضعات حتى تصبح المرضعة أمه في الرضاعة، كذلك الجنين يلزمه عدة نكحات مشبعات لتصبح أبوه"، هنا يحاول كل منهما تبرير موقفه من الآخر ويعلل ما ذهبا إليه، فعليا تحاول إقناع نفسها بأن باسم هو البديل لمحمود بعدما هجرها وهرب منها بينما هي حامل في طفله، وفي نفس الوقت يحاول باسم الاستيلاء على كل ما يخص محمود بما أنه الوحيد الذي يعلم بموته غرقا أثناء هروبه، وبالتالي لا يترك أي أثر لمحمود أمامه كي لا يظل يجثم على صدره كالكابوس، بل بات يتعامل مع كل ما يخص صديقه باعتباره عدوا حقيقيا له: "أغادر البيت، أنا وحيد في طرطوس، ولا أصدقاء لي! أتجه للغرفة، أفرغ محتويات الحقيبة بدرج فارغ، وأبدأ حملة تنظيف تُزيل آثار محمود من الغرفة، استخدمت مساحيق لتنظيف الجدران، لا أريد لبصماته أن تبقى، وأعددتُ أغطية السرير لآخذهم إلى المصبغة. كان في الغرفة حذاء قديم لمحمود، بعض القمصان الداخلية "كيلوتات"، فرشاة أسنان، أدوات حلاقة، أوراق تبين أنها لقصائده القديمة المنشورة في الجرائد، وصفحة يبدو أنها من الرواية، للحقيقة أجريت مسحا كاملا، وتخلصت من كل أغراضه حتى شعرت أنني الآن في غرفتي أنا، ولا يمكن أن توجد شعرة صغيرة من محمود".

هنا تحول باسم إلى مسخ حقيقي، أو وحش يريد أن يأكل أصدقاءه وينهي تواجدهم تماما وأي ذكرى من الممكن أن تربطه بهم، بل ويتزوج عليا ويعيش معها بسعادة وقد تناسى كل تاريخه مع أصدقائه تماما، فلا يراسل دانيال أو يرد على رسائله بعد هجرته إلى كندا، ولا يخبر أي إنسان بموت محمود، ويستولي على كل ما يخصه، أي أن الوطن في النهاية قد أدى إلى موت الجميع سواء على المستوى الواقعي أو حتى على المستوى النفسي، فالوحيد الذي رضخ للأمر الواقع وبقى شكليا في الوطن، قد تحول إلى مسخ شائه حقيقي، أكل كل ذكرياته ومحاها بقسوة واستولى على كل ما يخص أصدقائه بإمعان في القسوة، أي أن البقاء داخل حدود الوطن قد أدى في النهاية إلى التشوه.

يبقى أن الروائي قد أخطأ كثيرا على طول أحداث الرواية في علامة الترقيم "،" الفاصلة حيث استخدم علامة الترقيم الإنجليزية "," بدلا من علامة الترقيم العربية، وهذا ما لا يجوز في الترقيم بالعربية؛ مما يدل أن الرواية كانت في حاجة إلى المراجعة.

رواية "نوكيا" من الأعمال الروائية القليلة المؤثرة التي ينسج من خلالها الروائي السوري باسم سليمان مأساة الوطن العربي بالكامل، هذا الوطن الذي يعمل على قتل الجميع ودفعهم للهجرة أو الموت، سواء كان هذا الموت داخل الوطن بالتشوه والتحول إلى مسخ كما حدث مع باسم، أو الموت أثناء محاولة الهرب غرقا كما حدث لمحمود، أو حتى الموت من خلال الانفصال عن هذا الوطن إلى جغرافية أخرى بديلة كما نجا دانيال، يأتي هذا النسيج الروائي من خلال لغة سلسلة تحمل داخلها العديد من الدلالات العميقة المبطنة بالكثير من الثقافة حينما نلمح: "بينما كان الجرسون يُحضر لعبة الطاولة، كانت سماء طاولتنا تعبق بالدخان، كأن الرب سيتجلى لنا هنا، وليس على طور سينين سيناء...، أكانت ضرورات التصحيف، أم اختلاف الأماكن ووحدة الأسماء"، وغيرها من الجمل التي تُدلل على روائي يمتلك لغته الروائية الثرية، وربما يعود ذلك إلى أن باسم سليمان شاعر له العديد من دواوين الشعر؛ وبالتالي يكون تفاعله مع اللغة أكثر عمقا من غيره.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً