اعلان

أسرار "صلح الحديبية".. عندما رأى الكفار النبي أفضل من كسرى وقيصر

اسرار "الحديبية"..

في السنة السادسة من الهجرة النبوية المباركة عزم الرسول ( صلَّى الله عليه و آله) على الذهاب إلى مكة المكرمة حتى يؤدي العمرة، و كان النبي ( صلَّى الله عليه و آله) قد اتخذ هذا القرار على اثر رؤيا أراها الله عَزَّ و جَلَّ إياه، إذ رأى فيها أنه قد دخل البيت الحرام مع جماعة من المسلمين وحلق رأسه وتسلّم مفاتيح البيت، فتفاءل (صلَّى الله عليه و آله) بهذه الرؤيا خيراً، و قصَّها على المسلمين ثم أخبرهم بعزمه، وأعلمهم بموعد خروجه وهو شهر ذي القعدة، ودعاهم إلى الخروج معه، حتى انه (صلَّى الله عليه و آله) دعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها و كفرها إلى مرافقة المسلمين في هذه الرحلة السياسية ذات الطابع الديني.

و في الموعد المحدد خرج رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) متوجهاً إلى مكة بنية أداء العمرة، و خرج معه سبعمائة رجل من المسلمين كلهم يريدون أداء العمرة، وكان النبي (صلَّى الله عليه و آله) قد ساق معه من الهدي سبعين بَدَنَة، كل بَدَنَة عن عشرة، و قيل إن الذين أحرموا مع الرسول في " ذي الحليفة " هم ألف وأربعمائة، أو ألف وستمائة، أو ألف وثمانمائة .

و لمّا لم يكن خبر عزم النبي (صلَّى الله عليه و آله) على الخروج إلى العمرة خبراً سرّياً، إذ لم يُخفه النبي (صلَّى الله عليه و آله) بل أذاعه، ولعله كان يقصد منه أموراً، فقد انتشر الخبر و علمت به قريش، فتأهبوا لقتال المسلمين ولصدّهم ومنعهم عن زيارة بيت الله الحرام وأداء العمرة .

وما أن وصل المسلمون عُسفان حتى أُخبر النبي بأن قريشاً بعدما سمعت بخروج المسلمين إلى العمرة عاهدت الله على منع المسلمين من دخول مكة ، و أرسلت خالد بن الوليد إلى "كراع الغميم " مع مائتين من مقاتلي قريش، كي يمنعوا المسلمين من التوجه إلى مكة المكرمة ويصدّوهم عن أداء العمرة .

أما الرسول (صلَّى الله عليه وآله) فقد تجنّب مواجهة طليعة قريش فسلك طريقاً وعراً كثير الحجارة يمرّ بين الشعاب و انتهى إلى منطقة سهلة تُسمى الحُديبية فبركت ناقته بها فنزل و أمر الناس أن ينزلوا بها .

أما خالد بن الوليد فقد لحق المسلمين بعدما علم بتوجههم إلى الحديبية ، وما أن وصل حتى حاصرهم وحال بينهم وبين ما يريدونه من أداء العمرة .

و لم يبق أمام الرسول ( صلَّى الله عليه و آله) سوى خيارين، الحرب أو الدخول في مفاوضات مع العدو .

أما الحرب فلم يكن يريدها منذ البداية، إذ لم يُعدِّ المسلمين لذلك، بل أنه ذكّر المسلمين بحرمة التقاتل في الأشهر الحرم وهو في المدينة قبيل خروجه منها، ويشهد على ذلك أمران:

الأول: قول رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله) : " إنا لم نجيء لِقتال أحدٍ ، و لكنا جئنا معتمرين " .

الثاني: عدم حمل المسلمين من السلاح ما يتناسب مع الحرب والقتال ، إذ لم يكن التأهب للقتال ، ولم يكن سلاحهم يتجاوز سلاح الراكب والمسافر العادي، وهذا من أدلّ الأدلة على عدم إرادة النبي (صلَّى الله عليه و آله) الحرب والقتال ، رغم عدم مهابته منها إذا اقتضى الأمر ذلك .

لهذا نجد أن الرسول المصطفى قال عند نزوله الحديبية: " لا تدْعوني قريشٌ اليوم إلى خطة يَسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .

وبلغ قريش كلام رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله) فبعثوا ببعض رجالهم إلى المسلمين يستفسرون سبب توجههم إلى مكة، فبعثوا أولاً بديل بن ورقاء الخزاعي مع جماعة، فسئل النبيَ ( صلَّى الله عليه و آله) عن نيته فأجابه (صلَّى الله عليه و آله) قائلاً : "إنا لم نجيء لِقتال أحدٍ ، و لكنا جئنا معتمرين" .

ولدى رجوع بديل إلى قريش أخبرهم بنية المسلمين، لكنهم لم يثقوا بكلامه فأرسلوا مبعوثاً آخر يسمى "مكرز بن حفص" فتحادث مع النبي و رجع إلى قريش، وقال لهم ما قاله بديل، لكن قريشاً لم تصدق مكرزاً أيضا .

ولحسم الموقف بعثت قريش الحليس بن علقمة كبير رماة العرب، فلما رآه النبي (صلَّى الله عليه و آله) قادماً، قال: "إن هذا من قوم يتألَّهون ـ أي يعظمون أمر الله ـ فأبعثوا الهَدي في وجهه حتى يراه ".

فلما رأى الحليس الهدي وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش، ولم يقابل النبي (صلَّى الله عليه و آله) وقال لهم: والله ما على هذا حالفناكم، و لا على هذا عاقدناكم ، أيُصدّ عن بيت الله من جاء معظماً له وقد ساق الهدي معكوفاً إلى محله ؟! والذي نفس حليس بيده لتُخلّنَّ بين محمد و ما جاء له ، أو لأنفِّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد .

كان لموقف الحليس ومقالته أثراً كبيراً لتسريع عجلة المحادثات والمفاوضات، فبعثت قريش بعروة بن مسعود الثقفي إلى المسلمين حتى يتفاوض مع النبي محمد ( صلَّى الله عليه وآله ) ويخرج من المفاوضات بحل يرضي الطرفين، وتعهدت له قريش بأن تقبل ما يقوله .

جاء عروة وتبادل الحديث مع النبي لكن المفاوضات لم تصل إلى نتيجة، إلا أنه لمَّا شاهد المسلمين من قريب ورأى إعظامهم للنبي وإطاعتهم له، و لمس ثباتهم في عقيدتهم و شدة إيمانهم، تأثَّر بمعنويات المسلمين الرفيعة تأثراً كبيراً .

وعندما رجع إلى قريش قال لهم وهو يُعظّم النبي ( صلَّى الله عليه و آله ): "يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه، و قيصر في ملكه، و النجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت مَلِكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، و لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء قط ، فروا رأيكم " .

لكن قريشاً بقيت مصرةً على موقفها الخاطئ لأنها لم تكن تريد السلام، بل كانت تميل إلى الحرب والفتنة ، فقد حاول خمسون رجلاً منها أن تغير على المسلمين بهدف إرعابهم .

أما الرسول ( صلَّى الله عليه و آله ) فقد قرر أن يبعث إلى قريش مبعوثاً من قبله كي يحاورهم ويتفاوض معهم من جديد .

وبعد محاورات جرت بين النبي المصطفى وبين قريش ، وافقت قريش على أن يسمحوا للمسلمين بزيارة البيت لمدة ثلاثة أيام، لكن ليس في هذه السنة بل في العام القادم، وقَبِلَ الرسول ذلك و كتب بينهم كتاب صلح لمدة ثلاث سنين، وشرطوا الأمور التالية :

-أن يخرج المشركون من مكة خلال الأيام الثلاث المخصصات لزيارة المسلمين لبيت الله الحرام .

-أن يدخل المسلمون مكة بسلاح الراكب لا أكثر .

- أن لا يؤذي أحد من أصحاب الرسول ( صلَّى الله عليه و آله ) أحداً من المشركين ، و إن لا يؤذي أحد من المشركين أحداً من أصحاب الرسول ( صلَّى الله عليه و آله).

-أن تكون بينهم هدنة لمدة ثلاثة أعوام .

فأمر النبي ( صلَّى الله عليه و آله) المسلمين أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم في الحل ـ أي خارج الحرم ـ ثم حلق هو (صلَّى الله عليه و آله) ونحر ، وحلق المسلمون ونحروا هم أيضا .

و رجع الرسول و من رافقه من المسلمين إلى المدينة ، ثم خرج المسلمون حسب الاتفاقية في السنة التالية ، فدخلوا مكة وقد أخلتها قريش حسب الاتفاقية، فمكثوا فيها ثلاثة أيام ثم خرجوا منها .

و في الختام تجدر الإشارة إلى :

-هذه الغزوة من جملة الغزوات التي لم يحدث فيها قتال .

-هذه الوقعة رغم تسميتها في كتب التاريخ بغزوة، إلا أنها ليست من الحروب والغزوات، ويدل على هذا أمور، منها أن النبي أعلن عن نيته وهي العمرة، ومنها أن النبي لم يُخْفِ تاريخ خروجه إلى مكة و لم يباغت قريشاً ولم يغزهم، بل ترك لهم المجال لكي يعرفوا نيته، و هذا مما يدل على أنه ( صلَّى الله عليه و آله ) لم يكن يقصد الحرب والقتال، فلو كان كذلك لما أعطى لقريش فرصة الاستعداد و التأهب .

-إن الاتفاقية التي تحققت في الحديبية بين النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه و آله ) و المسلمين من جهة وبين قريش من جهة أخرى ، و ما نتج عنها من وقف العمليات العدائية و الايذائية ، و ما نشأ عنها من استتباب الأمن في أكثر أنحاء الجزيرة العربية مكَّنت النبي الأكرم (صلَّى الله عليه و آله) من توسيع رقعة دعوته من خلال إرسال المبلغين والدعاة، مما تسبب في دخول عدد كثير من الناس في الإسلام، فكان صلح الحديبية أكثر الحوادث بركة وعطاءً وفائدة للإسلام والمسلمين، على خلاف تصور البعض الذي كره صلح الحديبية، رغم أن النبي العظيم والقائد الملهم ما كان يتقدم على أمر ليس فيه صالح الإسلام والمسلمين .

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً