اعلان

مغامرة على "خط الموت".. قطار "عين شمس- السويس" ماشى بالستر.. العربات خردة والنوافذ محطمة.. والقضبان "مفاصلها سايبة"

سارية قطار تشق صمت الفجر الوليد، عشر دقائق فقط كانت مدة التأخير هذه المرة، قطار متهالك تسلل الصدأ إلى جسمانه، ورصيف لم يسلم من رائحة عفنة تسللت إليه، نتيجة محاصرة أكوام القمامة لقضبانه وحوائطه، صوت أنفاس تغفو على مقاعد امتدت يد الزمن إليها، لتعلن أثريتها وقِدمها، وسائق يحمل حقيبة صغيرة ينتظر طاقمه، ليبدأ رحلته الطويلة إلى السويس.. كان هذا هو المشهد الصباحى فى محطة قطار عين شمس- السويس" الذى ينطلق فى السادسة والنصف صباح كل يوم، عبر الخط الحربى القديم، ليصل إلى السويس فى رحلة من المقرر لها أن تستغرق ساعة ونصف الساعة، ليصل فى تمام الثامنة."أهل مصر" استقلت القطار وعايشت رحلة القضبان مع البسطاء، فى مسيرة على "خط الموت"، كما يطلقون عليه، لرصد معاناة الركاب وطاقم تشغيل القطار على حد سواء، فالخط القديم، والذى تمر قطاراته بـ 16 محطة، هى على الترتيب: عين شمس، والكيلو 3، والمستودعات، ومطار القاهرة، والكيلو 11.5، والكيلو 13، والعبور، ودرب الحاج، والشروق، والروبيكى، ووادى السيل، وجبل الجفرة، والكيلو 82.825، وجبل عوبيد، وطابية العجرود، وصولًا إلى السويس، أصبح طريقًا لرحلة اللاعودة، يشتكى منه الركاب والعاملون عليه على حد سواء.- خردة متحركة

بدأنا الرحلة بالتسلل خلسة إلى العربة الأولى من القطار صاحب الست عربات فقط، حالة من الوجوم كست ملامح الركاب القليلين، فالعدد بالعربة لم يتجاوز فى بداية الرحلة العشرة أشخاص، معظمهم مدنيون، انتظرنا أن يأتى "الكمسرى" لحجز تذكرة، ولكنه لم يأتِ إلا بعد أن تجولنا فى القطار، ورصدنا حالته.فجوة بحائط القطار لجهاز فقد محتوياته، ربما سرقة أو إهمالًا، كان أول ما شد انتباهنا، علمنا بالسؤال أنه مكان مخصص لحجز المياه الخاصة بالشرب، نظرًا لطبيعة الرحلة التى تنطلق فى خط صحراوى فقير فى موارده، إضافة إلى كونه مصدرًا لاستخدام المرحاض الخاص بالقطار، إلا أنه تعرض للسرقة.تهشم زجاج نوافذ القطار الحديدية الضيقة، انتشار القمامة على أرضية العربات، بين الكراسى وفى الممرات وتحت الأقدام، مشاهد عادية للركاب الدائمين.انطلق القطار فى رحلته، ليتوافد رويدًا رويدًا أعداد قليلة فى كل محطة، ومنذ خروجه سار على سرعة 8 كيلومترات، وهى السرعة التى حددتها الهيئة للسائق، وحسب شهادة "س.د"، سائق القطار الذى ارتدناه، فإن المسافة من عين شمس إلى الكيلو 9، غير مؤهلة لسير القطار عليها، فالقضبان متآكلة، ولا يوجد "بازلت" أو "زلط أسود"، وهو المسؤول عن تثبيت القطار على القضبان، فهو لم يجدد منذ سنوات، رغم توافره بكثرة فى البيئة المصرية، مؤكدًا أن المشكلة الرئيسية تنبع من أن المسؤولين لا يفكرون فى أرواح المواطنين المعرضة للخطر، فقط يفكرون فى مصالحهم وترقياتهم.- خطة فنكوش

وأضاف السائق أن وزارة النقل أطلقت منذ أربع سنوات خطة لتطوير خط سكة حديد عين شمس، فى المسافة ما بين عين شمس والكيلو 11، إلا أن التطوير اقتصر على سور أسمنتى غير مكتمل، وبعض أخشاب متناثرة، وحسب حديث عمال القطار إلينا، ذكروا أن المدة التى حددت للانتهاء من مشروع التطوير أقصر من ذلك، لكن القاعدة معروفة "كلما طالت مدة المشروع.. كلما كانت الاستفادة أفضل جراء السرقات"، وبالبحث علمنا أن وزير النقل أعلن خلال الشهر المنقضى عن بدء المرحلة الأولى من ازدواج مسار قطار "عين شمس- السويس" الحربى موضوع رحلتنا، تمهيدًا لاستبداله بقطار مكهرب، يخدم مدن السلام والعبور والمستقبل والشروق وبدر والعاصمة الجديدة والعاشر من رمضان وبلبيس.وفى رحلتنا، التقينا بـ"الكمسرى" المسؤول عن القطار، والذى ذكر لنا أن تشغيل الهيئة يتم على طريقة "سمك..لبن.. تمر هندى"، وأكمل وهو يصطحبنا بين عربات القطار الست، الفارغة، أنه يورد أموالًا زهيدة للرحلة، ففى اليوم السابق لرحلتنا، ورّد ثمانين جنيهًا، كدخل لتحصيلات تذاكر الرحلة كاملة من عين شمس إلى القاهرة، فى حين أن الرحلة تتكلف ما يصل إلى 1600 جنيه فقط، ثمنًا للسولار المستخدم لتسيير القطار ذهابًا وإيابًا، موضحًا أن ثمن التذكرة ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه فقط.- سرقات

وبعد عدة محاولات، اقتنع الكمسرى بطلبنا، وأوصلنا فى أمان إلى الجرار الأمامى، حيث كابينة السائق، والذى وافق على اصطحابنا معه فى الجرار لدقائق، شاهدنا خلالها الأمر على حقيقته، فتحدث السائق إلينا شارحا: "هذه الخردة الحديدية، تسمى فلنكات، وقضبان، وبندور، وهى المكونات الرئيسية للسكة الحديد، وتم تبديلها بأخرى جديدة منذ مدة، لكن المسؤول تركها على جانبى الطريق هكذا عُرضة للسرقة"، مؤكدًا أن المسؤولين بالسكة الحديد يطرحون مناقصات لبيعها، ثم تتعرض للسرقة، وتخسر الدولة ملايين الجنيهات، فالحديد الموجود بهذه الخردة من الممكن أن يعود إلى مصانع الحديد والصلب بحلوان، ويقومون بإعادة تدويره واستغلاله بشكل أفضل".وعرض علينا السائق خلال الرحلة، بعد توقف فى أكثر من محطة، ندرة الحمامات، فحسب شهادته هو وطاقم التشغيل، فإن الدولة لم توفر المرافق الأساسية للعاملين بالمحطات، من كهرباء وإنارة وحمامات ومياه صالحة للشرب، أو إسعاف أولى حتى، ولاحظنا أن بلوكات القطارات، وغرفة الملاحظ أو مراقب الإشارة، ماهى إلا كشك خشبى فى وسط الصحراء، حيث يجلس الرجل ومساعده وحيدين تمامًا، وهو ما علق عليه أحدهم ممن قابلنا فى القطار، حيث ذكر أنه تعرض لمواقف خطرة أكثر من مرة، ولم ينقذه أحد.- رحلة تحت التهديد

وأضاف المساعد أن الأعراب يخرجون ليلًا على عمال البلوكات والإشارة، ويهددونهم بالقتل وسط الصحراء، ثم يسرقون كابلات الإشارة، لمسافات كبيرة تمتد أحيانًا لعدد من الكيلووات، ولا يستطيع الموظف فى هذه الحالة المقاومة، نظرًا لأنهم غير مسلحين.وأضاف العامل أيضًا أنه فى إحدى ليالى الشتاء الماضى، تعرض هو وزميله فى العمل لموقف قاسٍ للغاية، حيث كانا فى الخدمة بمحطة وادى السيل، وتعرض زميله لأزمة قلبية مفاجئة، ولم يتمكن من إنقاذه، فأقرب مستشفى تقع داخل مدينة الشروق، والتليفون معلق نتيجة سرقة الكابلات، كما أن إشارة الهاتف المحمول غير متوفرة، ونتيجة لكل ذلك سقط زميله متوفيًا، ولم يستطع طلب الإسعاف إلا صباح اليوم التالى، بعد أن توقف القطار المقبل من القاهرة إليه، فاستخدم التليفون الخاص بالسائق لإتمام المهمة.- قطار تائه

ووفقًا لتجربتنا أثناء الرحلة، تأكدنا فعليًا من انقطاع شبكة المحمول فى الشبكات الثلاث، لمسافة 40 كيلو مترًا، من محطة الروبيكى إلى محطة عُبّيد، وهى مسافة كبيرة، تعرض فيها أحد القطارات منذ سنوات لحادث توقف، فى شتاء قارس، حيث تعطل القطار وسط الصحراء، ولما كانت الشبكة غير متوافرة، لم يتمكن السائق من التواصل مع أى مسؤول، واكتشف المسؤولون صباحا غياب القطار لمدة 14 ساعة كاملة، لينقذوا الركاب الذين تجمدوا من البرد بعدها.

- كارثة على القضبان

أثناء رحلتنا، توقف سائق القطار، لتلتقط عدستنا مصيبة كبرى، فالقطار يسير من محطة "الجبرة" إلى "الكيلو 82"، لمسافة عشرة كيلومترات، دون فلنكات أو "بندور"، فمعظمها مسروق فى هذه البقعة، وهو ما لاحظناه مع حركة القطار فى هذه المنطقة غير الطبيعية، فكاد القطار أن يخرج من مساره لأكثر من مرة، رغم أن السائق يسير على سرعة لا تزيد عن ثمانية كيلومترات، وهو ما حدث أيضًا من محطة "وادى السيل" إلى محطة "الجبرة"، حيث كثرت السرقات، والعجيب أننا لم نلاحظ فرد أمن واحد على طول الطريق، فى المنطقتين المذكورتين والمعروف عنهما كثرة السرقات بهما.انتهت رحلتنا فى النهاية بالسويس، ورغم أن المدة المحددة للرحلة ساعة ونصف، إلا أنها تمت فى أربع ساعات ونصف الساعة، لنصل فى الحادية عشرة تمامًا، وسط دعوات للرب بعد أن أنجانا من انقلاب أو حادث محقق لأكثر من مرة بالقطار.والسؤال الآن: هل ستترك الدولة خط "السويس - عين شمس"، ليظل طريقًا للموت؟

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً