اعلان
اعلان

بيوت عزرائيل.. جولة داخل المنازل الآيلة للسقوط بـ"روض الفرج".. ساكنو العقارات شبه المنهارة: خايفين نسيب البيت البلطجية ياخدوه وخايفين نقعد يتهد علينا (صور)

بخطوات تشبه راقصي الباليه اعتادت «ميرنا» التي أتمت عامها الـ33 منذ أيام، أن تتحرك بعقار والديها الذي تخطى عمره 110 أعوام، بشارع البرنس المتفرع من شارع «جزيرة بدران» بروض الفرج.

تلك المنطقة التي يتوارى سكانها يومًا تلو الآخر، تحت أنقاض منازلهم الآيلة للسقوط، لتتعالى الصرخات، لكن سرعان ما تجف الأعين من الدموع، وتعود الحياة الراقدة لطبيعتها، وما هي إلا أيام ويترك المارون بصمات خطواتهم على انقاض عقار جديد ينهار، لكن تلك المرة، استطاع المنزل المنهار بذات الشارع، أن يتمسك بمنزلين حوله، ليتحول ثلاثتهما خلال دقائق إلى ركام يحمل روح سيدة وابنتها، ودماء 4 مصابين.

الثالثة و9 دقائق عصر الثاني عشر من أكتوبر عام 1992، كان لقاء منزل عائلة «فاهم» مع هزة أرضية، تركت شروخا بحوائط متفرقة بالمنزل، تزامنًا مع الزلزال المدمر الذي ضرب مصر بقوة 5.8 درجة على مقياس ريختر، وخلف ضحايا وانقاضا لعقارات قديمة، لكن عقار العائلة استطاع النجاة والصمود لأكثر من 20 عامًا «بيتنا ده بيت عائلة، زلزال 92 هو السبب في ضعفه، وحاليًا لما عربية بتعدي قدامه بالليل، السرير بيتهز بينا»- طبقًا لرواية الرجل السبعيني اسحاق فاهم، أحد ملاك المنزل.

يتكون عقار «فاهم» من 3 طوابق، يضم أول طابقين 4 شقق، فيما قرر فاهم الاستحواذ على الثالث، منذ عشرات السنين، ليقيم شقة (غرفتين وصالة وحمام ومطبخ)، ويترك ساحة على قدر من الاتساع بالقرب من حائط شقته؛ لتربية الدواجن، لكن منذ 5 أيام اختفت زقزقة الطيور التي طالما كان «فاهم» يحرص على إطعامها يوميًا مع دجاجه «الفراخ كلها تم ذبحها، من 5 أيام جه عمال من حي القاهرة عشان رصف الشارع، وكان يوم رعب لينا، نزلنا قعدنا في الشارع باليومين لما لقينا البيت بيتهز بينا جامد وتقريبًا هيقع»- شهقات البكاء كانت قادرة على إيقاف ذكريات الكهل الذي ظل باسطَا كفيه على كتاب الدين المسيحي، ناظرًا لمنزله المعبأ بذكريات الطفولة، الحب، الإنجاب، احتضان الاحفاد، والشيخوخة أيضًا.

خطوات الصغار «أحفاد فاهم» الذين اتخذوا من سطح المنزل مكانًا للهو، كان لها صدى اهتز على إثرها المنزل، فتروي «فيروز» زوجة أحد ملاك العقار لـ«أهل مصر»: «أنا بخاف أنام.. بحس أن رجلي بتنزل في مناطق معينة في الشقة، ده غير الحيطة المشقوقة نصين والسقف اللي بينشع مية وكنا في مرة هنموت متكهربين.. باختصار احنا قاعدين منتظرين الموت والرب واحد مهما حصل بس أحفادي خايفة عليهم، أطفال ملهومش ذنب».

بضع درجات من «السلالم» المتآكلة والسور الحديدي المتأرجح لحظة الاتكاء عليه، وانفصال الحوائط، كانت لوحة حفرها الزمان على أركان المنزل الذي شيد عام 1907، لتستقر «أم تامر»، المالكة الثانية لذات العقار، بدوره الثاني منذ طفولتها «جوزي مات وابني عايش معايا والبيت هيقع.. الايجارات غالية ده غير أني لو طلعت من البيت احتمال البلطجية في المنطقة ياخدوه وضع يد.. الموت من كل الجهات»، صمت لدقائق ونظرة على المنزل الذي وصل لحافة الانهيار، وكلمات حاولت أن تختزل فيهم السيدة ذات الـ55 عامًا وجعها ورعبها من انتظار الموت، فقالت باكية: «أنا بعت عفش البيت وبنام على الأرض في عز البرد عشان أخفف الحمل على البيت.. في النهاية (لنا الله هو الرحيم)».

كشفت تقارير صدرت مؤخرًا عن وزارة الإسكان، أن نسبة العقارات الآيلة للسقوط، وصلت لما يقرب المليون عقار بكافة محافظات الجمهورية، تزامنًا مع صدور 132 ألف قرار بإزالة لم ينفذ أكثرها بعد، في الوقت الذي استحوذت فيه القاهرة على 60% من تلك العقارات المهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى- حسبما أكد علاء والي، رئيس لجنة الإسكان بمجلس النواب، أغسطس الماضي.

الساعة الثانية إلا 5 دقائق عصرًا، عقارات الأزقة الخلفية للعمارات التي وقعت الأسبوع الماضي بجزيرة بدران، بروض الفرج، هادئة إلا من حركات القطط الحذرة أثناء بحثها عن الطعام، لكن «أحمد» الشاب الذي وصل به قطار العمر لمحطة الـ20، رفع نظراته التي تتقدمها نظارة مستطيلة، يستحضر ذكرياته مع «غية الحمام» التي شيدها منذ عامين أعلى منزله الذي ختم بورقة حكومية كتب عليها «إخلاء مؤقت للشك في انهياره»، فوصف لـ«أهل مصر»: «البيت ده شاهد على طفولتي وأول قصة حب ليا، هو الحاجة الوحيدة اللي نملكها في الحياة».

«أبويا وأمي اللي ليا في الدنيا، وحاليًا عمي واخدنا عنده، لكن الإنسان تقيل على غيره ولازم نتصرف في شقة لكن مفيش غير 50 جنيها في جيب أبويا هيجيب منين»، كانت تلك الكلمات التي استطرد بها أحمد حديثه، أثناء استنشاقه رائحة منزله المشبعة بغبار حطام العقارات المنهارة، فيكمل: «الحكومة مش عايزة تتحرك.. لكن بعد أسبوع لو متصرفوش ميلموش غير نفسهم».

تضم القاهرة دون باقي محافظات الجمهورية، 30 منطقة غير آمنة للسكن من أصل 256 منطقة، تحتضن 450 ألف نسمة من بينم أطفال، طبقَا لأحدث إحصائيات جهاز التطوير العقاري، لكن محافظة القاهرة أصدرت ما يقرب الـ30 ألف قرار إزالة للعقارات المهددة بالانهيار السريع، تزامنًا مع 135 ألف قرار ترميم، و25 ألف قرار إزالة للأدوار العليا، لكن فقر سكان تلك العقارات والفشل في العثور على سكن بديل، وتقاعس المسئولين، ضرب بأوراق الإزالة والترميم عرض الحائط، ليبقى الحال «سكان تحت الانقاض ومسئول يجد مساكن إيواء للناجين».

المحلات المغلقة بالشارع الرئيس بروض الفرج، بدأت تعلن عن بدء مزاولة نشاطها اليومي في تمام الرابعة عصرًا، تزامنًا مع انطلاق الأطفال من المدارس.في «حارة أبوالسعود هاشم» المتفرعة من جزيرة بدران، الأجواء هادئة إلا من أطفال أخذوا يتقاذفون الكرة، التي كلما ارتطمت بأحد جدران العقار رقم «2»، فروا هاربين، فجزء من معاينة المنزل كانت نتائجها مطالبة مستأجريه بعمل أعمدة تمنعه من السقوط على المارة، فتقول إحدى المقيمات بالعقار رافضة ذكر اسمها «من أسبوعين الشقة اللي تحت مني حيطانها وقعت فجأة.. وجه قرار إخلاء فوري، أنا وبناتي انتقلنا لبيت عمتي وجوزي بينام عند صاحبه، صعب تكوني عايشة مستنية الموت، لكن سمعنا إن محافظة القاهرة المفروض تعوضنا».وتابعت: «والله حرام ده فيه جار لينا بيخلي ولاده يناموا في عربيته الربع نقل في الشارع، هنقول إيه بس والمسئولين على لسانهم كلمة واحدة.. لما حد يموت هنتصرف بلاش قلق على الفاضي».العقار المكون من 4 أدوار، منحته صاحبته قبل موتها للأوقاف، لخدمة الأطفال الأيتام، لتنتقل سريعًا إلى الرفيق الأعلى، ويؤول المنزل للأوقاف، التي لم تصدر قرارات بشأن مستأجري المنزل منذ أكثر من عشرين عامًا، فتقول صاحبة الشقة الأولى «أنا من وقت للتاني بأجي أفتح وأطمن على الشقة لكن بكون عارفة إيه السيراميك اللي لو دوست عليه السقف هيقع بيا وبتشاهد طول الوقت، لكن وزارة الأوقاف قالت أنا مليش دخل بهدم البيت أو تعويضكم أو إيجاد مسكن بديل، حاولوا تجدوا سكنا بديلا سريعا».يقف العقرب القصير عند السابعة، بينما يخطو العقرب الآخر نحو الثانية عشرة، في إشارة منه لإعلان تمام السابعة صباحًا، إنه موعد استيقاظ «فاطمة» التي تعدت العقد الخامس من عمرها، على الأصوات الصادرة أسفل منزلها بشارع المعز، من عربة الفول التي تصدر سيمفونية من ملامسة خشب عجلاتها لأرضية الشارع العريق، الذي يعد جزءًا من القاهرة الفاطمية التي شيدها القائد جوهر الصقلي لتكون عاصمة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي.يخلو منزل فاطمة المكون من غرفة وصالة كبيرة، ملحق بها مطبخ و«حمام» من ضوضاء أحفادهم الأربعة، الذين انتقلوا مع ابنتها وزوجها منذ 3 أعوام للاستقرار في منطقة شبرا، لتجلس هي وحيدة بين جدران تفوح منها رائحة التاريخ، التي دائمًا تحب أن تصفها بـ«ريحة مصر في شارع المعز عمرها ما كانت في القصور والفنادق»، صمت لدقائق كان كفيلا لانهيار دموع المرأة العجوز على فراق التاريخ الذي أصبح على وشك الانهيار.«محدش يقدر يزعل ويبكي بدل الدموع دم على سقوط بيوت في شارع المعز زي اللي عايش فيه، أنا حسى إن حياتي بتنتهي مع انتهاء المباني في الشارع»- كان ذلك الوصف الذي استطاعت فاطمة أن تعبر به عن قيمة شارع المعز لدين الله الفاطمي، الذي يحمل العشرات من المساجد الأثرية، التي قادت مصر لحجز مكانتها بقائمة التراث العالمي باليونسكو عام 1979.منذ سنوات، استأجرت العجوز محلًا يبعد عن منزلها بشارعين لبيع الإكسسوارات الفرعية، داعية الله أن يرزقها، لتتاح أمامها فرصة بعد أسبوع من البحث، لاستئجار محل صغير بعشرات الجنيهات، وتحولت من مرأة تنتظر معاش والدها إلى امرأة عاملة كما كانت تحلم منذ زمن، لكن فرحة العمل لم تكن قادرة على تغيير لون ملابسها التي لا تخرج عن إطار عباءة سوداء اعتادت أن تخفي جسدها داخلها بعد وفاة زوجها منذ زمن، لينضم شال لا يختلف لونه عن عباءتها، لبث الدفء بجسدها المنكمش في الشتاء.مياه الصرف الصحي، أصبحت زائرة شبه دائمة لمباني شارع المعز لدين الله الفاطمي، وسط تقدم أعوام تلك المباني السكنية التي لا يفصلها عن المساجد الأثرية والتكية، سوى حائط، فوصل عمر أكثر من 30 ألف عقار بالقاهرة الفاطمية، إلى ما يزيد على 150 سنة، لتنضم بذلك لقائمة المباني المهددة بالانهيار، حسبما أكد آخر تقرير لمحافظة القاهرة حول المباني الآيلة للسقوط.لم تكن فاطمة على علم بأن بيتها الذي يقع في منزل مكون من 3 أدوار، تطل نافذته على قهوة «الست أم كلثوم»، حكمت عليه الدراسات المختلفة بقرب انهياره، فتقول لـ«أهل مصر»: «من غير أي تقارير أنا عارفة أن خلاص فترة قليلة والمباني هتنتحر أو هتنهار زي ما بيحب المسئولين يقولوا عليها، والشك في الانهيار مبدأش من النهاردة، سقف البيت مشروخ وماسورة المية بتسرب في الحيطة ده غير السلم اللي كل يوم سوره يتهز أكتر من اليوم اللي قبله».في نهاية 2014، استطاعت أن تقدم وزارة الإسكان حصرا بالمباني المهددة بالانهيار في عدد من محافظات الجمهورية، لتحتل القاهرة المقام الأول، نظرًا لحاجة 40% من أحيائها للتجديد، وكان في مقدمة تلك الأحياء «الأزبكية والمناصرة وباب الشعرية والمحمدى وفم الخليج ومصر القديمة»، التي يعد شارع المعز لدين الله الفاطمي جزءًا عريقًا منها.تقضي فاطمة ساعة فور استيقاظها بين ترتيب أساس منزلها الصغير والتضرع إلى الله بالدعاء أن يمنحها حسن الخاتمة، لتأتي الثامنة وتبدأ في فتح أبواب دكانها الذي تحمل أبوابه اللون الأزرق، لبيع الإكسسورات الفرعونية، التي تمنحها مجانًا لفتيات المدرسة الثانوية التي تقع بالقرب من محلها من وقت لآخر، لإدخال السرور لقلوبهن. دقائق ويكون العامل بالقهوة التي تبعد عنها خطوات واقفًا أمامها حاملًا كوبًا من الشاي الذي يتصاعد الدخان الكثيف منه، داعيًا من طلب الدفء لحمله «الله يكرمه الحاج محمد صاحب القهوة بيبعت الصبي كل يوم يشتري ليا فطار ويعملي شاي»- حسبما أكدت.في الحادية عشرة من مساء كل يوم، تستدعي فاطمة شبح الوحدة وذكريات طفولتها مع شارع المعز الذي ولدت به ونشأت بين أحضان آثاره التي كانت دائمًا محل اهتمام والدها الذي كان يعمل مدرسًا لمادة التاريخ.تصعد بخطوات غير قادرة على المثابرة لاجتياز السلالم دفعة واحدة، فتحمد الله عندما تخطو بقدميها أعتاب منزلها، وتقول: «لما بكون على السرير بحس إنه بيتهز بيا لما عربية بتعدي تحت البيت.. ربنا يستر على الأطفال اللي في الشارع للبيت يقع عليهم وإلا بيت ينهار وجواه ناس كبيرة وأطفال.. أنا مش فارق معايا العمر واحد والرب واحد، ولا يمكن أترك بيت عائلتي زي اخواتي ما سابوه من 10 سنين وبنتي كمان زيهم.. حتى لو هيقع أنا هفضل قاعدة وسط تاريخ مصر وريحة أمي وأبويا وسريرهم».نقلا عن العدد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً
عاجل
عاجل
يديعوت أحرونوت: إدارة بايدن تدرك أن نتنياهو لا يستطيع قيادة إسرائيل