اعلان

علماء بريطانيون يبادرون بمشروع لترجمة ألواح الحضارة العراقية.. نصف مليون لوح طيني "فك شفرة" الكتابة المسمارية

كتب : سها صلاح

تضم الألواح الطينية الأثرية في جنباتها أسرارًا غنية لأقدم الحضارات التي استوطنت العالم – تحديدًا في منطقة بلاد ما بين النهرين – وتبيّن تفاصيل الحياة البشرية وشروطها لحقبةٍ تعود لآلاف السنين، لكن قليلًا من البشر من يقدر على قراءتها اليوم أو ترجمة محتواها، وما يزال معظمها مجهولًا، رغم كل التقدّم الذي أحرزته البشرية.

ربما يتغيّر الحال قريبًا مع التقنيات الجديدة التي ستوضع في خدمةِ ترجمة هذه الوثائق والألواح، بطريقةٍ تتناولها الكاتبة والصحافية صوفي هارداك بالتفصيل في مقالها المنشور حديثا على موقع "بي بي سي"، فهل تتكشّف لنا أسرار تلك الحضارات أخيرًا؟

منذ ما يزيد على خمسة آلاف عام في بلاد ما بين النهرين ، الأرض الواقعة بين نهري دجلة والفرات حيث يقع العراق الآن، استحوذت اللغة المسمارية على الحياة في حضارة معقدة وساحرة على مدى ثلاثة آلاف عام، من الرسائل الغاضبة بين الأشقاء الملكيين المتحاربين إلى الطقوس لتهدئة الطفل الممزق ، تقدم الأجهزة اللوحية نظرة فريدة إلى مجتمع في فجر التاريخ.

هم يؤرخون في صعود سقوط آكاد ، آشور وبابل ، الإمبراطوريات الأولى في العالم، وقد تم استخراج ما يقدر بنحو نصف مليون منهم ، ولا يزال هناك المزيد مدفون في الأرض.

ومع ذلك ، منذ أن تم فك الرموز المسمارية لأول مرة من قبل العلماء منذ 150 عامًا ، لم يسفر النص سوى عن أسراره لمجموعة صغيرة من الأشخاص الذين يمكنهم قراءتها. حوالي 90 ٪ من النصوص المسمارية تبقى غير مترجمة.

تقول إميلي باجي-بيرون ، الباحثة في علم الآشوريات في جامعة تورنتو: "إن تأثير بلاد ما بين النهرين على ثقافتنا هو شيء لا يعرفه الناس كثيرًا"، أعطانا بلاد ما بين النهرين عجلة القيادة، وعلم الفلك، وعلى مدار 60 دقيقة، خرائط ، قصة الطوفان والفلك ، وأول عمل من الأدب، وملحمة جلجامش. لكن نصوصه مكتوبة أساسا باللغة السومرية والأكادية ، وهي لغات لا يستطيع سوى عدد قليل من العلماء قراءتها.

وقال الموقع أن بتنسيق مشروع لآلة تترجم 69 ألف سجل إداري من بلاد ما بين النهرين من القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد، أحد الأهداف هو فتح الماضي للبحث الجديد.

واكد الموقع عن معلومات حول العديد من الجوانب المختلفة لحياة الناس في بلاد ما بين النهرين ، ونحن لا نستطيع حقاً الاستفادة من خبرات الناس في مجالات مختلفة مثل الاقتصاد أو السياسة، والذين إذا تمكنوا من الوصول إلى المصادر ، يمكن أن يساعدونا بشكل كبير على "فهم تلك المجتمعات بشكل أفضل".

وبصرف النظر عن ألواح الطين،هناك أيضا أكثر من 50 ألف ختم محفور ما بين النهرين منتشرة في مجموعات في جميع أنحاء العالم، على مدى آلاف السنين، استخدم شعب بلاد ما بين النهرين الأختام المصنوعة من الحجر المحفور التي تم الضغط عليها في الطين الرطب لتحديد الأبواب، والجرار ، والأقراص وغيرها من الأشياء، فقط 10 ٪ من هذه فقط تم تصنيفها، ناهيك عن ترجمتها.

ويقول جاكوب داهل ، أستاذ علم الآشوريات في جامعة أكسفورد: "لدينا مصادر أخرى من بلاد ما بين النهرين تفوق ما لدينا من اليونان وروما ومصر القديمة"، يتمثل التحدي في العثور على عدد كاف من الأشخاص الذين يمكنهم قراءتها.

صياغة هذه النصوص الإدارية بسيطة: "11 ماعز مربية للمطبخ في اليوم الخامس عشر"، على سبيل المثال، هذا يجعلها مناسبة بشكل خاص للأتمتة، وبمجرد تعلم هذه الخوارزميات ترجمة نصوص العينة إلى الإنجليزية ، فإنها ستقوم تلقائيًا بترجمة الأقراص الأخرى التي يتم ترجمتها.

الترجمات القابلة للبحث ستمكّن الباحثين من مناطق أخرى من استكشاف جوانب الحياة الغنية هذه في العالم القديم، ويوضح باغي-بيرون: "إن هؤلاء الناس مختلفون جداً عنا، لكنهم في نفس الوقت، لديهم نفس المشاكل الأساسية"، "فهم بلاد ما بين النهرين هو وسيلة لفهم ما يعنيه أن تكون إنسانًا."

وهي تأمل في أن يوضّح تحليل الآلات أيضًا بعض السمات السومرية التي لا تزال تحاكي الأكاديميين المعاصرين،هذه اللغة المنقرضة لا ترتبط بأي لغة حديثة ولكنها محفوظة في نقوش مكتوبة بالخط المسماري، قد يكون آخر رابط لنا المتبقي حتى للمجتمعات القديمة غير المسجلة.

يقول إيرفينج فينكل ، أمين المتحف المسؤول عن الألواح المسمارية البالغ عددها 130 ألف المخزنة في المتحف البريطاني: "ربما يكون السومري هو العضو الأخير في ما كان يجب أن يكون عائلة كبيرة من اللغات تعود إلى آلاف وآلاف السنين، ظهرت الكتابة في العالم في الوقت المناسب لإنقاذ السومريين ... نحن محظوظون لأن لدينا" ميكروفونًا "آخر التقطه قبل أن يختفي مع جميع الآخرين".

فينكل هو واحد من كبار الخبراء المسماريين في العالم. في مكتبه المليء بالكتاب في المتحف البريطاني ، يشرح كيف تم تفكيك النص بشكل بطيء بفضل نقوش متعددة اللغات عن الملك ، تماماً مثل حجر روزيتا الذي ساعد الباحثين على فهم الحروف الهيروغليفية المصرية.

"إنه لأمر مثير للدهشة إلى حد ما كم هو مثير للاهتمام عندما تجد عقل بشري عبر آلاف السنين ، حيث يشبه التحدث إليهم عبر الهاتف".

إتاحة الآثار

من الفرص النادرة جدًا أن يحمل أحدنا لوحًا طينيًا عمره 5 آلاف عام في راحة اليد، لكن وبفضل تقنيات التصوير المتقدمة سيكون متاحًا لأيّ شخصٍ لديه اتصال بالإنترنت الاطلاع على الكنوز الأثرية المتنوعة، مثل أقدمٍ مكتبة ملكية ناجيةٍ في العالم والتي يجري نقلها إلى العالم الرقميّ كما يؤكد المقال. بنى آشوربانيبال هذه المكتبة في نينوى، فقد كان ملكًا آشوريًا قويًا ومحبًا للكتب، تُعرض بعض الألواح الناجية من مكتبته في المتحف البريطاني بمثابة جزء من معرضٍ خاص بآشوربانيبال، وعلى الرغم من أن الألواح اسودّت وتصلبت بالنار أثناء سقوط نينوى عام 612 قبل الميلاد، لكن النصوص المنقوشة عليها ما زالت صالحة للقراءة.

تسهّل تقنيات التصوير الجديدة التعامل مع هذه النصوص القديمة، حتى التالفة منها. وبفضلِ الصور التفصيلية للغاية، يمكن تمييز علاماتٍ كانت غامضة جدًا بالنسبة للعين البشرية.

حوّل "جاكوب دال" وزملاؤه الألواح والأختام المخزنة في مجموعاتٍ في طهران وباريس وأكسفورد إلى بياناتٍ رقمية، ضمن مشروعٍ يدُعى "مبادرة المكتبة المسمارية الرقمية"، تحتوي قاعدة البيانات الإلكترونية هذه على حوالي ثلث النصوص المسمارية في العالم، بالإضافة إلى بعض اللغات المكتوبة التي لم تُفكّ شفرتها حتى الآن، مثل العيلامية الأولية من إيران القديمة، لم يكن تدريب الآلات على الترجمة ممكنًا لولا مثل هذي المصادر الرقمية واسعة الانتشار.

تساعد تقنيات التصوير الجديدة وأدوات الاستعراض الآلية المتقدمة على فكّ رموز اللغات القديمة مثل اللغة العيلامية الأولية التي تعود لحضارات إيران القديمة.

تساعد الرقمنة الباحثين أيضًا على تجميعِ وفهم الصلات ما بين النصوص المنتشرة في مجموعاتٍ متناثرة في أنحاء العالم. يشير المقال هنا إلى جهود "جاكوب دال" وباحثين من جامعة ساوثهامبتون وجامعة نانتير الباريسية في رقمنة صورٍ ثلاثية الأبعاد لحوالي 2 ألف ختم حجريّ من بلاد الرافدين. وفي مشروعٍ تجريبي لاحق، استخدموا خوارزميات الذكاء الاصطناعي لفحصِ مجموعةٍ مكوّنة من ستة ألواح ومن ثم تحديد طبعات الأختام المطابقة الموجودة في أماكنٍ أخرى من العالم. تمكّنت الخوارزمية من تحديدِ لوحين بشكل صحيح (أحدهما محفوظ في إيطاليا حاليًا والآخر في الولايات المتحدة) كلاهما طُبِع عليهما بنفس الختم.

عُرفت عملية المطابقة ما بين الأختام وطبعاتِها بمدى صعوبتها في الماضي، خصوصًا مع تناثر أغلبها في أنحاء العالم وعدم وجودها في مكانٍ واحد. يقدّر "جاكوب دال" بأن جميع الأختام ستصبح رقميّة في غضون خمس سنوات، ما يمكّن من تتبع الأنماط الأخرى، هناك بعض المؤشرات على تفضيل النساء مثلًا لبعض أنواع الأحجار.

تسمح تقنيات التصوير ثلاثية الأبعاد بفحصِ الأختام الاسطوانية إلى مستويات تفصيلية لم يسبق لها مثيل، المصدر

يعقّب "جاكوب دال": "هذا هو النوع من الأسئلة التي لا يمكنك الإجابة عليها إلا إذا كان لديك عدد كبير من الأختام مصوّرة بالطريقة التي نقوم بها نحن، وعبر تطبيق تقنياتٍ من قبيل الخوارزميات أو التعلم الآلي"، وهو يأمل أن تطور الذكاء الاصطناعي سيساعدنا على كشف أقصى ما يمكن من المعلومات الغنية والمحتوى المتناثر في مجموعات في جميع أنحاء العالم: "أريد أن يكون علم الآشوريات – الذي يشمل نصف التاريخ البشري وتراثًا ثقافيًا مهددًا بالاندثار – في طليعة هذا الأمر".

يشمل علم الآشوريات نصف التاريخ البشري وتراثًا ثقافيًا مهددًا بالاندثار

فكّ الرموز

تساعد تقنيات التصوير في تغيير طرق البحث في النصوص التي استعصت رموزها عن الفكّ حتى الآن. يميل البشر لأن يفوقوا الآلات في هذا النوع من فكّ التشفير؛ إذ تتضمن عادة كميات صغيرة ومتفرّقة من النصوص، والقفزات الذهنية الإبداعية، فضلًا عن ضرورة فهم كيف يعيش الناس وينظمون أنفسهم. يتطلب هذا كله قدرًا كبيرًا من المرونة الفكرية.

يذكر المقال أمثلة مفاجئة في هذا السياق، مثلًا: لم تُرتب العلامات المسماريّة المبكرة في نصوصٍ خطية، بل وضعت ببساطة إلى جانب بعضها البعض ورُسم إطار حولها، تعتبر اللغة العيلامية الأولية ثلاثية الأبعاد أيضًا، فطبعة الدائرة الضحلة لها معنى مختلف عن طبعة الدائرة الأعمق، مع ذلك، ساعدت التكنولوجيا في عمليات فكّ التشفير من خلال توفير صورٍ مفصلة قابلة للتكبير والمشاركة والمقارنة وما إلى ذلك.

يوضح "جاكوب دال" الذي يعمل على فكّ شفرات النصوص الغامضة: "المشكلة الأساسية تكمن أولًا وقبل كل شيء في الحصول على صورٍ مناسبة"، فهنالك افتقارٌ شديد على ما يبدو للمئة عام الأولى من دراسة العيلامية الأولية.

تتجاوز منافع هذه التطورات مجال علم الآشوريات. يورد المقال مثلا "فيليپا ستيل" وهي زميلة أبحاث بارزة في جامعة كامبردج، وخبيرة في أنظمة الكتابة المبكرة في كريت واليونان القديمة والتي كانت تستخدم في كتابة الشكل القديم من اليونانية يشمل ذلك "نظام خطي أ" والنصوص التي لم تفكّ شيفرتها بعد و"نظام خطي ب".

تمكّنت "ستيل" من اكتشاف تفاصيل جديدة في هذا المجال، بفضلِ التقنيات القادرة على التقاطِ صور معقدة للألواح القديمة المنقوش عليها النصوص. تعقّب "ستيل" عن تجربتها مع التطوّر التكنولوجي: "يمكنك فهم وتحديد معالم من الصعب جدًا تمييزها بالعين المجردة، وغالبًا ما تتناسب هذه المعالم مع الطرق التي تفاعل بها الشخص الكاتب للمستند مع المستند، بالنسبة إلى "نظام خطي ب" مثلًا.. يمكنك استكشاف آثار المحو، وبالتالي معرفة ما إذا كان الشخص الذي كتب المستند قد عمل على شيءٍ ما، ومن ثم كتب شيئًا آخر فوقه".

تأمل "باجي – بيرون" في أن تصبح الأجهزة قادرة في النهاية على ترجمة ألواح سومرية أكثر تعقيدًا، وكذلك ترجمة لغات أخرى مثل الآكادية، مضيفة: "هناك الكثير ليُكتَشف عن الثقافات القديمة".

استخرج علماء الآثار في العراق آلافًا من الألواح الطينية الحاوية على بعض أقدم اللغات المكتوبة في العالم. المصدر: أمناء المتحف البريطاني

لدى كاتبة المقال آمالها أيضًا، فربما سنكون قادرين يومًا ما على قراءة كل النصوص القديمة مترجمة-على الرغم من أن غالب آثار ونصوص بلاد الرافدين من المرجح أن تعمّر أطول منا، لأسباب كثيرة أولها أن الأجزاء المسمارية المفقودة ما تزال مستلقية في باطن الأرض بانتظار التنقيب عنها واستخراجها.

أولى ملوك بلاد الرافدين تفكيرًا عميقًا فيما يخصّ الماضي والمستقبل، وكانوا يقدّرون النصوص المسمارية الباقية من العصور السابقة لهم، كما عمِدوا إلى دفن نقوشٍ خاصة توثّق أسماءهم وإنجازاتهم، واعدين بالثواب للحكام اللاحقين الذين سيكرّمونهم.

يمكن القول إن رغبتهم تحققت بطريقة ما. ربما تنسى المعارك والفتوحات بأغلبيتها، لكن ابتكارهم الأهم الكتابة ساعد البشرية على تطوير الأفكار والتقنيات عبر آلاف السنين، والآن تساعد في تدريب الآلات حتى للتعلّم من الماضي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً