اعلان

رمضان في الدنمارك.. استفزازات حكومية وتدابير تقييدية.. ومعاناة من طول ساعات العمل مع صيام 21 ساعة

الاسر المسلمة في الدنمارك

تقع دولة الدنمارك في أقصى شمال العالم، في موقع بمنأى عن العالم الإسلامي، حيث تفصلها عن البلدان الإسلامية قارةٌ كاملةٌ هي أوروبا من جهة الجنوب ومساحات واسعة من القارة الأسيوية باتجاه الشرق، وهي من البلدان الاسكندنافية ذات التوجه العلماني، حيث أن نسبة كبيرة من مواطنيها يعتنقون الوثنية ولا تربطهم بالديانات السماوية أية روابط لا من قريب ولا بعيد.

وصل أول المهاجرين المسلمين الدنمارك في بداية الستينيات، وكانوا شباباً من أصول باكستانية وتركية، أتوا إلى الدنمارك للعمل وإرسال الأموال إلى عائلاتهم في مواطنهم الأصلية، ولكن سرعان ما قرروا جلب أسرهم إلى الدنمارك؛ ليجد الإسلام والمسلمون موطنًا لهم في هذا البلد.

ثم أتى اللاجئون الفلسطينيون والصوماليون وبعدهم المسلمون الأفغان والباكستان، ليتشكل الإسلام في الدنمارك، مثلما هو الحال في العديد من البلدان الغربية الأخرى، من هذه الجنسيات التي كوَّنت قاعدة للإسلام في الدنمارك.غياب روح رمضانومع حلول شهر رمضان، لا يبدو أن العاصمة الدنماركية كوبنهاجن قد حادت قيد أنملة عن وتيرتها اليومية، فالمدينة تتمسك كثيرا بطابعها المتنوع، الذي يعززه أكثر تواجد عدد كبير من الجاليات الإسلامية من أصول مختلفة.تزدحم وسائل النقل من مترو وقطارات وحافلات بالركاب، فيما تكتظ الطرق بالمشاة والمحلات التجارية ومراكز التسوق بالزبائن، وساحات المقاهي شبه ممتلئة، في هذه الأجواء تتنفس العاصمة الدنماركية، على غرار باقي مناطق البلاد، نسمات الربيع المنعشة.من جانب آخر، تخفي هذه الصورة المثالية مشهدا مغايرا: فالمملكة الشمالية، كباقي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تستعد لانتخاب نوابها في البرلمان الأوروبي في 29 مايو الجاري، وسط نقاش صاخب تحتل فيه قضية الهجرة مركز الصدارة.تدنيس وحرق القرآنزيادة على ذلك، فالدنمارك مدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية في يونيو القادم، في سياق سياسي يهتز بقوة تحت وطأة خطر غير مسبوق يتمثل في تصاعد نفوذ اليمين المتطرف، والذي باتت أبرز مظاهره المستفزة، عمليات تدنيس وحرق القرآن في عدة مناسبات.

صياماً شاقاً كما السياسةوبالنسبة لمسلمي الدنمارك، من المستبعد أن يكون رمضان 1440 للهجرة "2019" مجرد فسحة، فقد يكون شاقا، على مستوى العبادة كما في السياسة.وإذا كان صحيحا أن رمضان هذه السنة يعد بأن يكون أكثر تساهلا 18 ساعة من الصوم، مقابل أكثر من 20 ساعة قبل ثلاث أو أربع سنوات، فذلك لا يمنع، في الوقت نفسه، أن التدافع على المستوى الاجتماعي سيكون على أشده.استفزاز المسلمين مع قدوم رمضانفبالنسبة للعديد من المسلمين في الدنمارك يسود انطباع بأنه يجري استفزازهم باستمرار عند مقدم كل شهر رمضان، مذكرين في هذا السياق بالملاحظات المثيرة للجدل التي أبدتها في العام الماضي وزيرة الهجرة والاندماج، إنجر ستويبرج "الحزب الليبرالي"، وهي سيدة معروفة بمواقفها المشددة إزاء قضية الهجرة.فعشية رمضان السابق، أثارت ستويبرج الجدل خلال الحديث حول قدرة الصائمين على أداء مهامهم بشكل صحيح؛ وهي تصريحات لم ترق بالضرورة لجميع مواطنيها، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى الدين الإسلامي.تدابير تقييديةصحيح أنه منذ وصولها إلى السلطة في عام 2015 في ذروة أزمة الهجرة، بعد مسار في وزارة العمل وتكافؤ الفرص، عملت "السيدة الحديدية" بجد للحد من تدفق المهاجرين إلى بلدها، مع إقرار ما يقرب من مائة من القوانين والتدابير التقييدية.والنتيجة: بين عامي 2015 و 2017، نظرا للتضييقات المتلاحقة، انخفض عدد طلبات اللجوء المقدمة بنسبة 75 في المئة، إنجاز!غير أن الترسانة التي أنشئت، بغاية في التعقيد لدرجة أن معظم الفقهاء القانونيين يكافحون من أجل سبر أغوارها، قد تعززت في غضون سنة واحدة بتدابير أخرى، تبقى على الأقل مشكوك في نجاعتها.وهذا قد ينطبق على الحظر على النقاب، والالتزام بالمصافحة للحصول على الجنسية، وخطة القضاء على الأحياء الهامشية بحلول عام 2030، أو احتجاز "غير المرغوب فيهم" في جزيرة غير مأهولة.

مخاطر غير متوقعةوبالنسبة للعديد من المراقبين، بمن فيهم كتاب الافتتاحيات، فإن هذه السلسلة من التدابير في بلد يبلغ تعداد سكانه 5.8 مليون نسمة، 8.5 في المئة منهم من أصل "غير غربي"، تتضمن مخاطر غير متوقعة، في سياق يسبق أجواء الحملة الانتخابية.مجاهرة بمعاداة الإسلاموفي هذا المناخ المتوتر إلى حد ما، لم يكن ينقص سوى أن يتظاهر، في منطقة معينة ذات كثافة عالية من المسلمين بحي نوريبرو متعدد الثقافات في كوبنهاجن، في الثالث والعشرين من مارس الماضي، شخص يدعى راسموس بالودان مؤسس حزب يرفع شعار كراهية الأجانب ويجاهر بمعاداة الإسلام، وإشعال فتيل النزاع.

مسيرة وازنةوبعد يومين من الاضطرابات، نظمت مسيرة وازنة لمسلمي الدانمارك انطلاقا من نفس المكان الذي تظاهر فيه السياسي -المحامي مهنة واليوتوبر توجها، ومؤسس حزب "سترام كروس" "النهج الصلب"- وكان يعتزم فيه حرق القرآن الكريم، لكي يؤدوا صلاة العصر بعد وصول المسيرة إلى المكان التاريخي في رادهوسبلادن، مقر مجلس مدينة كوبنهاجن.وخلال هذه المسيرة السلمية، على طول كيلومترين، هتف المتظاهرون بشعارات تدعو إلى احترام الإسلام، كما هو الحال بالنسبة لجميع الأديان الأخرى، ونبذ كراهية الأجانب والعنصرية، والتمسك بقيم التسامح والعيش المشترك التي تشكل ركائز في البلد الشمالي، وعلى ضرورة إعادة تفعيل قانون ازدراء الأديان الذي ألغاه البرلمان الدنماركي في يونيو 2017.وعلى الرغم من الحكم عليه بالسجن لمدة أسبوعين، مع وقف التنفيذ، بسبب تعليقات عنصرية، إلا أن السياسي المثير للجدل، تمكن -بسبب ثغرة قانونية- من جمع الأصوات اللازمة المطلوبة للترشح للانتخابات التشريعية المقبلة.أكثر الشهور أهميةومع ذلك، يعتبر شهر رمضان الكريم في الدنمارك وعاداته من أكثر الشهور والوسائط أهمية للأقلية المسلمة في هذا البلد لاعتبارين، أولهما أن الدنمارك بمنأى عن العالم الإسلامي، حيث تفصلها عن البلدان الإسلامية قارةٌ كاملةٌ هي أوروبا من جهة الجنوب ومساحات واسعة من القارة الأسيوية باتجاه الشرق، وثانيهما أنه إلى جانب أن بلدان اسكندنافيا هي بلدان علمانية فإن نسبة كبيرة من مواطنيها يعتنقون الوثنية ولا تربطهم بالديانات السماوية أية روابط لا من قريب ولا بعيد.وسيلة تذكير وتذكرللمسلمين في الدنمارك عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم الخاصة، التي تميِّز قضاءَهم لشهر رمضان عن غيره من شهور السنة، حيث إنه وسيلة تذكير وتذكر للروابط في ما بينهم وفي ما بينهم وبين العالم الإسلامي، إلى جانب كون الشهر مدعاة لإحياء الشعائر الدينية، وترسيخ الشعور الديني في نفوسهم.المصلياتففي شهر رمضان يتوجه المسلمون في هذه البلدان بقلوب خاشعة إلى أقرب المساجد إليهم بمجرد الإعلان عن قدومه، وفي المناطق الخالية من المساجد يلجأوون لاستئجار أماكن للصلاة تسمَّى "المصليات" لأداء الصلوات ولقراءة القرآن الكريم والتلاقي من أجل توطيد الروابط الأسرية وتبادل التهاني، وتأكيد إخوتهم في الله، وعادة ما تشهد تلك المصليات إقبالاً ظاهراً من جانب المسلمين في العشرة الأواخر من الشهر الكريم، تماماً كما المساجد.منظمات المجتمع المدني الإسلاميةوهنا لا يقتصر إحياء شهر رمضان على الجهود الأهلية، إذ تشارك منظمات المجتمع المدني الإسلامية في ذلك، وتقوم الجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية والروابط الاجتماعية بأنشطة متنوعة تسهم في إضفاء أجواء خاصة للشهر الكريم، تكون في أحيان كثيرة مثار دهشة وإعجاب المواطنين الدنماركيين أنفسهم وبالأخص ممن أشهروا إسلامهم في المساجد وعلى أيدي الأئمة الأفاضل المنتشرين في المدن الدنماركية الرئيسية وعلى أيدي الأئمة والمشايخ الذين يُستقدمون خصيصاً لهذا الشهر.استقدام الشيوخ من مصرفالمسلمون في الدنمارك يحيون شهر رمضان المبارك بطريقتين، الأولى هي العبادات، والثانية هي المظاهر الاجتماعية وتحضير المأكولات، فمن ناحية يستقدمون الأئمة والمشايخ من الدول العربية والإسلامية وبخاصة من مصر "بلد الأزهر الشريف" والمملكة الأردنية الهاشمية وإمارة قطر، ومن ناحية ثانية نجدهم يعملون على تهيئة المساجد والمصليات بحيث تستوعب الأعداد الكبيرة من المصلين الذين يرتادونها.الخدمات الخيريةولربما أن الخدمات الخيرية هي من أبرز المظاهر التي تعبر عن نفسها بتميز ووضوح في شهر رمضان في الدنمارك إن لم تكن أبرزها، حيث تنظم المساجد موائد الرحمن من أجل تنمية المشاعر الدينية الراقية في نفوس المسلمين وبخاصة الأجيال الشابة الجديدة.انتشار الأكلات العربيةواللافت للنظر أن المسلمين في هذه البلدان قد حملوا إليها عاداتهم التي توارثوها في مجتمعاتهم الأصلية، فنجد مثلاً انتشار الأكلات العربية على اختلافها وتنوعها، كما وتحرص المتاجر التي يمتلكها عرب ومسلمون على تقديم احتياجات الصائمين من المواد الغذائية طوال الشهر الكريم، الذي جعله الله تعالى فرصةً للتقرب له و للعمل على إحياء المشاعر الإسلامية الراقية ونقلها إلى غير المسلمين في بلدان المهجر.مشكلات المسلمين في الديمناركيواجه المسلمون العديد من المشكلات في هذه البلدان أبرزها ما يتعلق بتحديد موعد بدء الشهر الكريم وما هو متعلق بوضع المسلمين العام وليس في شهر رمضان فحسب، ففيما يتعلق بالنوع الأول من المشكلات نجد أن هناك صعوباتٍ تواجه المسلمين في تحديد موعد بدء الشهر وذلك بسبب الأحوال الجوية التي تنخفض فيها درجة الحرارة وينتشر فيها الضباب بجانب تساقط الجليد معظم العام ما يقلل من إمكانية رؤية الهلال بالعين المجردة، الأمر الذي يستدعي صيام كل منهم على أساس بلده الأصلي أو البلد الذي يختار، وغالباً ما يكون على أساس مصر أو المملكة العربية السعودية أو المغرب.طول ساعات النهارهذا ويواجه المسلمون في هذه البلدان مشكلةً أخرى، ربما أنها تكون أوضح في أيام الصيف وهي طول فترة النهار، حيث يطول النهار في بعض السنوات إلى فترات قد يصل فيها الصيام إلى 20 ساعةً، وذلك بسبب الموقع الجغرافي لتلك البلد في أقصى شمال القارة الأوروبية.تعصب أعمىوهذا الأمر يستدعي ضرورة تنظيم العمل واختصار ساعاته بحيث يسهل على المسلمين أداء فريضة الصوم على أن تعوض بعد انتهاء الشهر، إلا أن وجودهم داخل مجتمع غير مسلم يضعهم أمام حقيقة أن بعض أرباب العمل في القطاع الخاص لا يقدرون ظروفهم الدينية فيرفضون تخفيض ساعات العمل ولا يسمحون لهم بأداء فريضة الصلاة في أماكن عملهم نتيجة تعصبهم الأعمى وكرههم للإسلام والمسلمين.يُذكر أن الأخوين الدنماركيين "كلاوس وميجل روث" كانا قد أرجعا، في كتابهما "قنبلة في العمامة" الذي كتباه للرد على جريمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لنبي الرحمة "ص" التي نُشرت في الدنمارك في عامي 2005 و2008 وتسربت منها إلى بلدان اسكندنافية وأوروبية أخرى، ذلك الكره إلى جهل كبير لدى أقطاب حكومات تلك البلدان بالدين الإسلامي "لأنهم لا ينظرون إليه إلا كدين يصدّر الإرهاب"، وكنا قد رأينا في أزمة الرسوم، أن تعصب الغربيين لقيمهم على حساب قيم الآخرين وإغماض أعينهم عن رؤية الحقيقة التي لا تعجبهم جعلاهم يضربون عرض الحائط بقيم الثقافات الأخرى وعلى وجه الخصوص قيم الثقافة الإسلامية.رمضان في الدنمارك ما أصعبه وما أقساه، لكن يشفع للمسلمين هناك فيه كرمه وتشفع لهم فيه بركته.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً