اعلان

الصداقة لا تدوم والمشاعر تتغير

حازم سالم
حازم سالم

هناك ثلاثة كلمات كانت في قصيدة "بريد القنابل" للشاعر العراقي عدنان الصائغ، تقول: "الفناجين باردةٌ كالصداقات" نجدها تختصر حقائق كبيرة نعيشها، وكانت دائماً حولنا وتحيط بنا منذ عدة عقود على الأقل، بشأن الصداقات في زماننا هذا وفي عالمنا الذي نعيشه.

الصداقة – مهما تعمّقت ومهما طال أمدها ومهما امتدت جذورها بين الأصدقاء – صارت لا تدوم... إذا دامت لفترة فإنها تدوم لفترة محددة، ثم إما أن تنتهي أو أنها تصبح "باردة" كالفناجين المنسية على طاولات المقاهي في ساعات الليل المتأخرة بعد أن يذهب المرتادون، أو في الأيام الشتوية الباردة حيث لا تحتفظ الأشياء لا بسخونتها الأولى ولا دفئها الباقي إلا لدقائق معدودة.

لا علاقة بإنسانية يمكن أن تدون ديمومة تامة بحسب ما أنت ترغب وتريد وتتمنى، طالما أن الحياة تدور وتتحول بك ومعك من مرحلة إلى أخرى، وطالما أن الظروف والأحوال تتغير، والناس معها وبها وحولها وعبرها ومن خلالها وبسببها يتغيرون.

دوام أي حال من المحال، ودوام أي حالة إنسانية وأي علاقة بين البشر على نفس حالتها دون تغيير قد يكون بنفس درجة الاستحالة... لا تظل أنت أبداً طفلاً صغيراً تعيش في كنف أبيك وأمك، ولا تظل دائماً في موقع واحد أو وضعية واحدة سواءً في الدراسة، أو في العمل، أو في أي حال من حالاتك... ولذلك، تكون الصداقة الناضجة، الأكثر قابلية للاستمرار وللبقاء لأطول فترة ممكنة، هي التي تحصِّن نفسها بقوّة كل طرفٍ، وعدم إتكالية أو اعتمادية أحد الأطراف على الطرف الآخر، وقدرة كل منهما على مصارحة بعضهما البعض بكل شيء، حتى فيما يتعلق بتغيّر مواقفهم من بعضهم البعض أو تحوّل مشاعرهم وتصوراتهم عن بعضهم البعض من حالٍ إلى حال. وتستديم الصداقة لأطول فترة ممكنة طالما كان كل طرفٍ على استعداد للحظة الانفصال عن الآخر إذا لزم الأمر أو اقتضت الظروف، واستعداد كل منهما لخفض مستوى الصداقة إلى مستويات أقل، ومنها الزمالة، ومجرد علاقة المعارف، أو حتى ترتيبات المصالح المشتركة وحسب إذا كان لابد من ذلك.

ليس هذا حديثاً عن الاستغناء عن الصداقة، ولا عن تهميشها وتقليص مساحتها في حياتنا، ولا عن الإلقاء بها في خانة اللاشعور ومجرد أداء الواجب، أو التواصل البارد في المناسبات عبر وسائل التواصل الاجتماعية... ولكنه حديث هنا عن ضرورة أن تساهم ’أنت‘ في علاقة الصداقة مع الآخرين بالقدر الكبير والمناسب والعميق والمؤثر، ولكن في نفس الوقت ألا تبالغ ’أنت‘ في التوقعات بشأن المقابل من الطرف الآخر، ولا تبالغ في أن تترصّد كل خطوة يأخذها ذلك الصديق الآخر أو الأصدقاء الآخرون تجاه كل فعلٍ تقوم به، أو خدمةٍ تؤديها، أو دعم أو مساندة تقوم بها تجاهه أو تجاههم.

إنها أيضاً دعوة للإقلاع عن المبالغة في إبداء الود والحنان والمشاعر الدافئة في الصداقة إذا كانت غير موجودة بالفعل بهذا القدر، والإقلاع عن التكلُّف والتصنّع والتمثيل المسرحي والنفاق المجتمعي في علاقات الصداقة، لأن ذلك بحد ذاته يقتلها، أو يميتها موتاً بطيئاً، أو يجلعها باردة كالفناجين المنسية على طاولة شتوية في مساءٍ حزين.

إن كل علاقة إنسانية هي بناءٌ يشارك فيه الطرفان، ويتحمل كلاهما مسئوليته، وبالتالي، لا تدوم أية علاقات بين البشر للأبد، وعلينا أن ندرك هذا المتغير وأن نستعد له، حتى لا نتفاجأ بالتغيير يحدث والتحول يجيء، ونصبح مجرد ضحايا الصدمة التي تحل بنا، وندفع أثماناً مضاعفة لأشياء كان لابد أن تحدث وكان لابد أن نكون مؤهلين لقبولها ومستعدين لحدوثها.

"وما تشاءون إلا أن يشاء الله... إن الله كان عليما حكيما".

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً