اعلان

وائل الطوخي يكتب: «تروما التضخم».. عندما اغتالت «الصحافة الاقتصادية» نفسية محرريها

وائل الطوخي
وائل الطوخي
كتب : _______

لسنوات طويلة تصل أحيانًا لعقود، كان الخوف الأساسي في حياة الصحفيين، هو أن يتعرضوا للعنف البدني، خلال تأدية عملهم خصوصا في التغطية الميدانية خلال الحروب والاحتجاجات، وذلك ليس فقط أقليميًا بل عالميًا، لكن مع مرور الوقت لم يعد العنف البدني ذلك النوع الوحيد الذي يخشاه الصحفيين ويشكون من تأثيره على حياتهم الشخصية، بل ظهر مؤخرًا ما يمكن أن نطلق عليه «العنف النفسي» حيث يدفع الصحفي ثمنًا باهظًا من صحته النفسية خلال تغطية الأحداث.

إذا ظهرت الدهشة على وجهك عزيزى القارئ بسبب هذه الكلمات، وسألت نفسك كيف يحدث ذلك؟، فما لا تعرفه أن نقل «الحقيقة» للجمهور تدفع الصحفيين إلى مبارزة مشاعرهم بقوة، وقتلها بدم بارد، من أجل نشر تلك الحقيقة، وإثبات صحتها، وكشف أدلتها بشكل مجرد، مع الابتعاد عن وضع آرائهم بها، أو التعليق عليها.

فالأصل في مهنة «الصحافة والإعلام» نقل المعرفة، كاملة وبدقة، والتأقلم مع متطلباتها دون الاعتبار لأي عواطف أو مشاعر حتى وإن كانت تلك الحقائق تؤثر على حياة الصحفي الشخصية وصحته النفسية والعقلية وتتسبب في احتراقه، فهو قد عاهد نفسه على نقل الحقيقة ولا شئ غير الحقيقة، حتى وإن كان هو نفسه سيتضرر في حياته من تلك الحقائق التي يكتب عنها.. نعم أنها الكوميديا السوداء التي تثير الضحك والبكاء في آن واحد.

تروما تغطية الأخبار الاقتصادية

تبدو هذه المقدمة ضرورية لإلقاء الضوء على ما صارت تلعبه تغطية الأخبار الاقتصادية مؤخرًا، من أثر خطير على نفسية المحرر الصحفي، فحالنا نحن كصحفيين اقتصاديين ـ ونحن نغطي أخبار المال والأعمال، تارة فيما يتعلق بالتضخم، وأخرى بشأن تحرير سعر الصرفـ يجعلنا كمن يتجرع المُر من باب الواجب المهني، فنجد أنفسنا أمام تروما جديدة تطرق الأبواب وهي « تروما تغطية الصحافة الاقتصادية» والتي تغتال روحنا دون رحمة أو هوادة، ولا نملك أدنى فرصة للامتعاض أو التعبير عما نتعرض له من إيذاء نفسي.

الصدمات النفسية في الحياة الصحفية

فتروما «تروما تغطية الأخبار الاقتصادية» صارت صورة جديدة من صور الصدمات النفسية في الحياة الصحفية والتي قد تقتصرها بعض من وجهات النظر على ما يتعرض له الصحفيين من مآسي في تغطية الكوارث الإنسانية وأوجاع الحروب فقط، عندما تكون صحتهم النفسية تكلفة نقل الأحداث المؤلمة ومعايشة ظروف الدمار والقتل، فإذا كان هذا حال نفسية الصحفيين في تغطية هلاك من حولهم فماذا عن عاطفة الصحفيين بعد نقل أخبار إبادة أحلامهم بلا وداع أو حتى القدرة على رثائها بفعل تحرير سعر الصرف الذي أشبه بسلاح تصوب فوهته نحو 'العملة' فتقبض ذخيرته روحها وتهوى بقيمتها أرضًا وما يتشبث بها من مستوى المعيشة إلى أدنى الدنى؟

أسئلة مربكة لا تتوقف

هذا لن يكون السؤال الأوحد بل أنه السؤال الأبرز كيف كان شعور الصحفيين وقت تحرير أخبار سعر الصرف؟ بل هل تم تحرير ذلك الشعور أيضًا من الطموح من التفاؤل من البحث حول مستقبل الاستقرار المادي؟.. هل قيدت أسوار الذهن بإعداد مجموعة من الأسئلة للمختصين عن أسباب ونتائج الحدث؟.. كيف وضعوا خطة للهرب من شبح تضخم أسعار الأمنيات؟ أم أن بناء المستقبل أصبح استثمارًا يعاني الركود مثلما توقع لهم خبراء السوق في الحديث عن الأمر؟.. ماذا حل ببال الجماعة الصحفية في تلك الأثناء؟.

اللا منتمي

من يشعر بهم إذا كانت مهنة الصحافة بالأصل هي حرية التعبير وإيصال صوت المواطنين فمع كل عملية لتحرير سعر العملة، يرصد الصحفيون حالة السوق وجميع أطراف منظومته بشكل دؤوب، المواطن 'المستفيد' والحكومة 'المراقب' والقطاع الخدمي بكل مجالاته فعند أداء وظيفته يجدهم جميعا يتنصلون منه باعتباره ناقل للمعلومة معبر عن أصواتهم فقط أما هو يجد نفسه 'غير منتمي' لا أحد يهتم بتأثير 'التعويم' على حياته الاجتماعية أو بالاطمئنان على ما تكبدته مشاعره من صدمة وحزن وتفكير عميق أو مراعاة لصحته النفسية أو محاورته عن وقع الحدث عليه كأنه موضوعًا لا يعنيه أو منعزل عنه.

وائل الطوخي

عندما تحول الصحفي إلى لاعب أكروبات

ومع المزيد من المستجدات الاقتصادية السلبية العالمية مثل ارتفاع أسعار الذهب، رفع أسعار الفائدة، انهيار قيمة العملة، تحرير سعر الصرف، ارتفاع نسب التضخم، انخفاض الاحتياطي النقدي، ارتفاع الأسعار كأثر لجائحة كوفيد 19، الحرب الأوكرانية، اشتباكات السودان، التوتر السياسي الشديد في منطقة الشرق الأوسط، يتحول المحرر الاقتصادي إلى «لاعب أكروبات» يحاول أن يحمل الكرات كلها بيده ويوازن بينها أو مثل من «يسير على الجمر» فهو تارة مواطن عادي يتعرض لتلك الأحداث الاقتصادية ويتأثر بها ماديا، وتارة أخرى هو صحفي عليه نقل المعلومة للقارئ بحيادية وموضوعية، وتارة ثالثة ضحية نفسية لأنه أول شخص يتعرض لتلك المستجدات الاقتصادية قبل تقديمها للقارئ، وهو الفئة الأكثر تفاعلا معها عبر مجموعة من العمليات مثل جمع المعلومات ومعالجتها وتحليلها ونقلها وعرضها.. إلخ، وإن نجح في تحقيق ذلك التوازن فذلك يضعه في خانة «الناجيين من تروما» وفقا لما يقره علم النفس الإعلامي ومبادئ المهنة.

الخوف من الموت

في عام 1973 أثار «أرنست بيكر» عالم النفس الأمريكي الجدل بين الباحثين عند إصدار كتابه 'إنكار الموت' معتبرًا أن الخوف من الموت الدافع الرئيسي وراء معظم السلوكيات البشرية كما أنه سبب كامن في الكثير من الاضطرابات النفسية فماذا يفعل هؤلاء المحررون عند تعرضهم للصدمة مباشرة ثم يعود الأمر بهم اضطراب السلوك وأخيرًا الخوف من الموت لأنه في الحقيقة لا فارق يذكر بين الجسد والحلم فأصبح هناك محورين أساسين لتروما الصحافة الاقتصادية؛ الأول انقلاب هرم الشعور بشكل عكسي كامل أما الثاني هو التعامل بإنكار تام لحقيقة الشعور بالخوف والهدف من ذلك هو محاولة استمرار الحياة بشكل طبيعي والتجاوز عن سلبيات أثر الخوف النفسي وهو هنا ليس مرتبط بثلاثة احتياجات ضرورية لحياة أي إنسان يؤدي وظيفته كمصدر دخل والثاني الهدف من الحياة 'الحلم والمستقبل' والثالث صحته النفسية فهو يتغافل عن الثاني والثالث لصالح الأول باعتبارها عوامل معنوية فالخوف هنا يجرده المشاعر الأحلام لهدف البقاء فقط دون غير حتى أن «أرنست بيكر» أكد ذلك في كتابه أن الإنسان يسعى لتجاوز الخوف من الموت بإحدى طرق الإنكار أو الهروب أو التسامي فتحرير قيمة العملة يقسم الصحفيين فئات اقتصادية حسب أعمارهم؛ فإذا كان شاب عليه الامتناع فورًا بالسعي إلى المستقبل والناضج لن يجد أنسب من الوقوف محلك سر فالخطوة للأمام مخاطرة والتراجع قد يعني سقوطا أما كبار السن فستجد أكثرهم يطرق أبواب السلام النفسي.. وللحديث بقية.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً