اعلان

مفاهيم متلبسة وضعها الخوارج وأهدرت دماء المسلمين .. الولاء والبراء

القرآن
القرآن

تواجه بعض المفاهيم في الشريعة الإسلامية، حاليا، ضروبا من الاختلال في استعمالها وهى بالأساس مفاهيم وضعها الخوارج وأهدرت دماء المسلمين، وأحدث استخدام هذه المفاهيم من جانب بعض المنتسبين للدعوة أنواعا من الاضطراب في توظيفها، ويرجع ذلك للعديد من الأسباب، قد يكون من أهمها ردة الفعل النفسية التي يواجهها البعض من المسلمين حيال ما يلاقيه العالم المسلم من مختلف المظالم، على الأصعدة المختلفة سواء منها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، الأمر الذي نتج عنه بروز الفكر 'الخوارج' مجددا، وهو الفكر الذي يميل الى تكفير الاخرين، والى اسقاط الاحكام العامة، بشكل غير عقلاني، في توجيه الإدانة الى العالم المسلم بكل ظواهره، مستندا في ذلك على بعض نصوص القرآن والحديث، واستغلالها في غير موضعها التي قيلت فيه، على غير ما فهمها وعمل بها المسلمون الأوائل من الصحابة وتابعيهم، فعارضوا بفكرهم هذا عموم امة الاسلام وسقطو في التكلف والشذوذ والغلو، سواء كان ذلك على الصعيد الفكري أو على صعيد الممارسة.

اقرأ أيضا .. لماذا يغلب الضعف على الاحاديث الغريبة ؟ وكيف نحكم على صحة الحديث من سماعه ؟

وقد يكون من أكثر تلك المفاهيم خطورة، والتي وضعوها في غير موضعها، فتسبب، لذلك، في العديد من الفتن والبلاءات، هو مفهوم البراء والولاء، إذ وضعه المغالين، على غير حقيقته، موضع الشرط للايمان، ومناط الانتماء الى الى زمرة المسلمين، واعتبروا، وفقا له، كل من لم يعتنقه ويطبق، بحسب فهمهم الذي ينافي مقصود الشارع من تلك النصوص الكريمة. زز

يشير لفظ 'ولي' في اللغة العربية الى مفهوم 'الدنو' و'القرب'، وما يتصل بذلك من مفاهيم الصداقة والنصرة والمحبة. وذكر الراغب الاصفهاني: 'ويستعمل ذلك في الاشارة للقرب المكاني والنسبي ، وكذلك القرب الديني، وفي النصرة والاعتقاد والصداقة وأما اللفظ الآخر وهو 'البراء' فيرجع اصله الى مادة 'برأ'، وهي تشير، لغويًا، الى معنى المباعدة والتنزه والمفارقة. وفي هذا ذكر الراغب الأصفهاني: 'أصل البراء والتبري والبرء: التقصي مما لا يُرغب في مجاورته'. وما سبق هو المعنى اللغوي الذي ترجع له هاتان الكلمتان: 'برأ' و 'ولي'. أما فيما يتعلق بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، الذي قصده الكتاب والسنة، فلفظ 'الولاء' يرجع مفهومه الى الى مفهوم قلبي إيماني في المقام الأول. وذلك هو أساسه وأصله الذي يعتمد عليه، وتتشعب منه الشعب. وذلك لان مفهوم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، المقصود منه أنه تعاهد قائم على محبة المراد منها التعبد، يشير في الاساس إلى الإيمان بوحدانية الله من خلال الإخلاص له وعدم الشرك به في كل الامور، والى محبة الرسول (صلى الله عليه وسلم) من خلال نصرته وإجلاله وتوقيره، ومن ثم الى محبة المسلمين والمؤمنين، بتقوية رباط المحبة في الله بينهم، وتعزيز معاني التعاطف والتواد والتآزر في دين الله، وكل ذلك هو أصل التسامح والسلام الموجود مجتمع المسلمين.

اقرأ أيضا .. الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا .. لماذا وصف الله البدو بأنهم أشد كفرا من جميع من تحدث القرآن عن كفرهم ؟

أما فيما يتعلق بـ 'البراء' فيقصد منه بغض المسلم للكفر، تعبدًا، والتنزه عنه، والتبرؤ منه، كونه فكر معتمد على مخالفة أصول الإيمان، ومن غير اللازم منه كره المسلم لغير المسلم بشكل مطلق، فهؤلاء امرنا الله ان نتعامل معهم بالبر والقسط، لا بالاعتداء عليهم وسوء معاملتهم، وما ورد من نصوص يبدو ظاهرها الامر بمقاطعة أهل الكفر والقسوة عليهم، في سياق البراء والولاء، فهي مقصورة على المعتدين منهم والمحاربين للمسلمين، وليست المقاطعة والقسوة بشكل مطلق. وفيما يتعلق باعتماد ذلك وتطبيقه عسكرياً، فمرجعه الى تقدير الحاكم وفق ما تتطلبه المصلحة العامة للامة. واستنادا الى ما سبق من توضيح معنى 'الولاء والبراء'، فمن غير الجائز أن تعتمد عليه أحكام التكفير، لان ذلك يعد نوعا من أنواع الحكم على النية، وضرب من تقصيد الأمور القلبية، وجميع ما سبق تمنعه شريعتنا. ووفقا لعقيدة أهل السنة، فلا يكفر المسلم حتى لو أتى أمرا ظاهره مخالفة واضحة لأساس 'الولاء والبراء'، وإنما يعد معصية كبرى، ولنا في قصة حاطب بن أبي بلتعة، رضي الله عنه، خير شاهد على ذلك، فقد نقل أسرار عسكرية للكافرين في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)

اقرأ أيضا .. ماذا قال ابن القيم عن الروح ؟ وهل ترجع النفس إلى الله ويبقي الإنسان حيا بروحه إلى الأبد؟

فلما اظهر الوحي ذلك الى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، قال له: 'ما هذا ياحاطب؟'، فرد حاطب قائلا: 'لا تستعجل في الحكم عليّ يا رسول الله، فإني لست من أصول قريش، على خلاف اصحابك من المهاجرين الذي لهم قرابات يحمون ذويهم وأهليهم، فأردت أن اتّخذ فيهم يدا، كي يحمون بها اقربائي، ولم اقدم على ذلك الفعل من باب الكفر، ولا الردّة، ولا بسبب رضاً بالكفر بعد الإسلام. فرد عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: 'صدق'. ، وأيضا لما قال عمر، رضي الله عنه، 'اتركني يا نبي الله اضرب عنق هذا المننافق'، ولكن النبي (صلى الله عليه وسلم) منع عمر قائلا: 'إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك؟ لعلّ الله اطَّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم!'. وفي ذلك نص واضح وصريح يتعلق بالوقوع في شراك مخالفة 'الولاء والبراء' من محاباة المحاربين من الكفار، وخيانة الامة وشق صفها، ورغم ذلك لم يعده الشارع ضربا من ضروب الكفر، ولم يحل به دم من أتى به، ولكنه يعتبر معصية كبيرة يُسند الى الحاكم تقدير عقوبتها التعزيرية.

اما اذا كانت مسالة اقامة علاقات ثنائية بين بلدان غير اسلامية، مما يرى الحاكم أنه خير للامة ومصلحة لها، فذلك أمر لا يتصل لا من قريب ولا من بعيد بمعنى 'الولاء والبراء'، لا أساساً ولا فرعاً. ولكنه مسالة اجتهادية محضة، يُسند تقديرها الى الحاكم الذي يلقى على عاتقه مسؤولية صون ما فيه خير الامة وديناً ودنيا، والتضحية من أجلها بالإتيان بما فيه خيرها وإبعاد ما فيه شرها. فالحاكم يتولى النيابة عن الأمة في كل تلك الأمور ويسهر على خدمة المسلمين في سبيل صون أموالهم ودمائهم. قال صلى الله عليه وسلم: 'المؤمنون تَتَكَافَأُ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم'.

اقرأ ايضا .. لماذا هاجم ماكرون الإسلام علنا للمرة الأولى منذ نهاية الحروب الصليبية ؟ وهل الدين الإسلامي يواجه أزمة أم أن الأزمة عند ماكرون !

ان منظومة الأخلاق في الإسلام لا تتعارض كليا مع معنى 'الولاء والبراء'، بل ان هذا المعنى يخضع لأحكامها وداخل في اطارها. حيث ان كره الكفر لا يعني بالضرورة كره الكافر لذاته، فان كان معناه ذلك فما امكن التعامل معه بشكل مطلق، وهو ما يخالف ما جاء به القران الكريم ومضاد لما هو ثابت بالتواتر من حديث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خلال تعامله مع اهل الكتاب خاصة، ومع اهل الشرك بصفة عامة، بل ان معامته (صلى الله عليه وسلم) لهم بالحسنى كانت سبيلا رئيسيا في دخولهم الاسلام لاحقا تاثرا منهم بأخلاق النبي السمحة، التي امتدحه الله بها في كتابه حيث قال: 'وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم).

وعلى هديه (صلى الله عليه وسلم)، صار صحابته الكرام، رضي الله عنهم جميعا، في تعاملاتهم مع أهل الكتاب، من عهود او جوار او تجارة أو غير ذلك من العلاقات، ويشهد بذلك تاريخهم العظيم خلال عهد الخلفاء الراشدين وتابعيهم. ومما سبق يتبين إذا ان معنى 'الولاء والبراء' في الإسلام، إنما شرعه الله لصون أصول الإسلام من خلال احتواء المسلمين لبعضهم البعض، وبنشر مفاهيم المودة والتعاطف بينهم، ودفع ما يتعارض مع ذلك والابتعاد عنه ودرئه. وهي مسألة لا تتحقق إلا من خلال الطرق المشروعة التي وضعها الله ورسوله كأداة للوصول الى غاياته. واقتصارها على إجلال الله تعالى ومحبة رسوله (ﷺ) والانخراط في نسيج الامة العام، والعمل على اصلاحها في اطار بنيتها الاساسية التي تتمثل في اعتقاد وتبني ما اجمع عليه السواد الأعظم من الامة، وعدم مخالفته والخروج عنه الى ما من شأنه أن يثير الاضطرابات والفتن وسحب العباد والبلاد إلى مالا يحمد عقباه من فساد واضطرابات.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً