اعلان

المنسيون في نجوع الجيزة.. سيدة: "إحنا أفقر مكان في مصر والعيال بتموت من الميه الوحشة".. والحمير الراعي الرسمي للمواصلات (صور)

يسكن الفقر كل البيوت، يطاردك في الطرقات، وتلقاه مرغمًا في محل صغير، ومطعم وحيد للفول والطعمية يأكل منه الأهالي جميعًا، وتراه مرسومًا علي وجوه الناس، وفي الخوف من المرض الذي لا مغيث منه، حيث لا يوجد عناية طبية كافية، كما تراه في مياه الصنبور الممزوجة بملوحة الأرض، ومياه الترع الراكدة، فلا الأرض تنتج محصولًا، ولا الحيوانات تدر لبنًا، تراه في إحدى أفقر الأحياء المصرية.. في «عرب أبو عريضة، عرب أبو ساعد، غمازة» بمحافظة الجيزة.سيارة متجهة إلى مدينة الصف، كفيلة بأن تلقي بك علي أول الطريق، لتسير بعدها كيلو مترات قليلة بين الحقول، متجاوزًا بعض الترع والمصارف حتى تصل إلي بداية عرب أبو عريضة، ثم غمازة، تليها منطقة عرب أبو ساعد، الذين يظهرون للوهلة الأولي وكأنهم قرى من الماضي، أو مساكن العصور الوسطي، يغلب على البيوت البناء بالطوب الأبيض، وتتصف بالبساطة والأسطح الخشبية.ما إن تدخل القرية حتى تجد محلًا للبقالة يعكس المشهد كاملًا، لا تتجاوز مساحته المتر المربع، تبيع البضاعة سيدة عجوز من داخل غرفة صغيرة تسكنها مع أولادها الأربعة، ويحتوي المحل على مشتروات متنوعة، ومنها الحلوى التي تبدو قديمة متهالكة، ورغم ذلك يشتري منها الصغار، ليشعرون بالسعادة لقليل من الوقت مصاحبًا لهم أسراب الذباب والأتربة المتراكمة على وجوههم.لا أحد يبدي اعتراضًا هناك، فالناس راضون بكل شيء، وكل ما يطمعون فيه هو الحد الأدني من الآدمية، فهل من الممكن أن تصدر شكوى بأنهم لا يمتلكون حق علاج أطفالهم، والمياه لا تصلح للشرب نهائيًا.أم محمد، أما لخمسة أطفال، تموت قلقًا كلما ارتفعت حرارة أحدهم، فهي لا تدري ماذا ستفعل لو تطور الأمر -لا قدر الله- فالوحدة الصحية غير مجهزة بما يكفي من أطباء وعلاج للمرضى، وبذلك فالوحدة لا تقدم أي خدمات للأهالي، ويعملون لساعتين فقط في اليوم، وبالتالي فوجودها أو عدمه سيان، تقول أم محمد: «ابني الصغير تعبان جدًا، عامل عمليتين وفاضله واحدة، كل اللي محتجاه 2500 جنيه عشان أكمل علاجه».«المرض بالنسبة لنا يساوي الموت»، كان هذا هو رأي ابنها الأكبر محمد البالغ من العمر 14 عامًا، الذي ذاق صعوبة الحياة بجانب والدته وأخوته، تخرج أم محمد يوميًا من بيتها السابعة صباحًا لتستقر في محل الفول والطعمية، تبيع لأهل المنطقة، ثم تعود إلى منزلها لتطهو طعام صغارها، اشترت أم محمد 10 دجاجات، لتضاعف مصدر رزقها.لعدم وجود وسيلة مواصلات من القرية إلي أي مكان آخر، فلم يكن «حمدي عبدالعزيز» قادرًا على استدعاء سيارة الإسعاف، عندما مرضت زوجته، لأن التليفونات لا تعمل بالقرية، بعد تكرار سرقة الكابلات الأرضية لأكثر من ٥ مرات فعاقبتهم الشركة بقطع الخدمة نهائياً.المياه واحدة من أهم مشكلات هذه القرية، صحيح أنها تصل إلي المنازل، إلا أن مذاقها ولونها يجعلان استخدامها للشرب يعني الموت المحقق، بسبب أنها مياه شديدة الملوحة، فانحصرت مهمتها في الاستحمام وغسل الأواني، بل يشترونها يوميًا من مناطق محيطة بهم،جميع المناطق لا تصل إليها مياه صالحة للشرب،قصة المياه كما يرويها عم صالح، أحد باعة الخضار الجائلين: «الميه اللي بتوصل للبيوت عفشة، ولا مؤاخذة يعني البهايم ترفض تشرب منها، ميه الطلمبات مالحة وماتتشربش، وميه البيوت زي ميه الترعة، ومفيش في العرب مصدر للميه الحلوة، (العزبة) بتجيلنا عربيات من التبين تبعلنا الميه في الجراكن».الطبيعي أن تجد الشباب والرجال يغلب عليهم شكل البدو لأنهم من أصول وقبائل عربية، يظهر عليهم الجمود واللهجة البدوية، ينقسمون إلى عدة قبائل، في حين أن معظم النساء يظهرون خارج بيوتهن بسترة مغطاة وجوههن، تشتهر نساء العرب بـ«كثرة الخلفة»، رغم عدم القدرة على تربيتهن وتلبية متطلباتهم، ويسود الجهل تلك الأحياء، فيكتفون بتعليم الأطفال بمرحلة الإبتدائية، خاصة البنات لتلتزم البنت بيتها، وتساعد والدتها، والولد يخرج من مرحلة الطفولة مبكرًا ليحمل على عاتقه أحمالًا ثقيلة تتمثل في مساعدة والديه، فالأطفال الصغار المتواجدين في حواري العرب يختلفون عن غيرهم في المجتمع.وعلى الطريق يجلس الرجل الخمسيني عم فؤاد، ذو بشرة سوداء اللون، يمشي ببطء شديد، منحني الظهر بسبب الغضروف الذي أصابه، «أنا بقعد طول اليوم عشان جنيه، اللي هو مكسبي من شوية حلويات ببعها للأطفال، وآخرالنهار أشتري جردل ميه بـ 2 جنيه و4 أرغفة، و2 جبنه وأروح لمراتي عشان نتعشى وأنام».وقاطعته زوجته عظيمة: «أنتم فاكرينا عايشين إزاي، الرجالة بيشتغلوا في الفاعل في القري والمراكز التانية، وتخرج الستات كمان تشتغل، عشان نعرف نعيش ونعيش ولدنا، محدش بيساعد حد في العرب كلنا محتاجين، وعايزين مساعده».ــ أفقر مكان في مصرفي الطريق إلي «غمازة»، لا يختلف الأمر كثيرًا عن العرب، حيث لفتت الأنظار أربعينية ترتدي جلباباً ريفياً، وإلي جوارها كومة من الصحون والأواني وبعض الخضروات التي أحضرتها لتغسلها، في الشارع لأن الحنفية توجد على حافة غرفتها الصغيرة، ما إن رأتنا حتي تحدثت بلهجة بها لهفة: "أنتم غرب عن غمازة، جايين طبعًا عشان تساعدوا البيوت المحتاجة، في أطفال بتموت هنا ومحتاجين مساعدتكم، إحنا أفقر مكان ممكن تشوفه»، لم نرد أن نقاطعها فاستكملت «الناس هنا مش لاقية الأكل ولا الشرب، والطوابير علي المياه لما بتيجي من التبين بتبدأ من شروق الشمس، بالخناق بين الأهالي، وفي مش معاهم حتى سعر المياه، والحي كله مافيهوش غير فرن واحد، ومابيكفيش حد، ومابقاش حد يخبز عيش لأن تكلفة الخبيز بقت غالية، والمية زي ما انتو شايفين، وعواميد الكهربا بتكهرب الناس والمواشي، ومن كام يوم فيه جاموسة اتكهربت تمنها ١٠ آلاف جنيه إحنا حالتنا كرب صحيح، بس الناس عايشة وراضية».المشاكل هنا لا تتوقف، محمد الطوبي، أضاف إلي كل هذا مشكلة المصرف الزراعي، الذي تحول مع مرور الوقت إلي مصرف صحي، تأتي سيارات «الكسح» كل بضعة شهور فتلقي بما تحمله فيه، تفريغ الخزان يتكلف أكثر من ١٥٠ جنيهًا، أما الشوارع الضيقة، فيتم استخدام عربات يجرها حصان، ثم ينزح الخزان يدويًا عن طريق الجرادل.يحكي الطوبي عن أطفال كثيرين غرقوا في مياه هذا المصرف، وعن أمراض معدية تسببت فيها أكوام القمامة التي تمثل تلًا صغيرًا علي ضفتيه، ويحكي بغيظ أكبر عن الحي والمسئولين، الذين يظهرون فقط وقت الانتخابات، ويرغمونهم علي التصويت لهم مقابل جنيهات قليلة، يتكلم عن مركز الشباب، هذا المبني الخرب في قلب تل رملي، تعلوه لافتة لولاها لم تكن لتتصور هوية هذا المكان، أرض فضاء بها عارضتان من الحديد وبينهما مساحة من الأرض غير المستوية، تكسوها طبقات من الطفلة التي تستخدم في صناعة الطوب، فمن لم تجرح قدمه منها فلن ينجو إن سقط، والشواهد ضحايا من شباب القرية غلفت أقدامهم وأيديهم بطبقات من الجبس.أما الطفل أحمد البالغ من العمر 13 عاما، طالب بمدرسة عرب أبو عريضة الإبتدائية والإعدادية، فقال إن سقف المدرسة في الفصول يتساقط عليهم أثناء اليوم الدراسي، والمدرسون لم يهتموا بالشرح المواد الدراسية للطلاب،وعدم وجود مدرسة ثانوية، جعل الطلاب يستصعبون استكمال تعليمهم الثانوي، لأن المدرسة الثانوية تبعد أكثر من ٥ كيلو مترات، ولا توجد أي وسيلة للتنقل هنا، وبعضهم يذهب إلي هناك بالحمير أو علي الدراجات، وهذا لميسوري الحال فقط، وقاطعته فتاة بعصبية شديدة: «إحنا اتفضحنا وسط القري التانية، والناس كلها بتعايرنا بفقرنا، وأنتم مش هتساعدونا وتكتبوا عننا ومافيش حاجة هتتغير وكل اللي بنعمله إننا هنفضح في نفسنا وبس.. سيبونا في حالنا بقي».الفقر والجهل والخوف من الغد ومن لقمة العيش التي ربما لا تأتي، هو مصير تلك الأحياء المنسية، التي ستجد فيها استثناء لكل قاعدة، فهنا ينام الناس بدون عشاء، وهنا يعمل الفرد طوال اليوم سعيًا وراء جنيه واحد، وهنا يخدمون الغير ويأخذون الفتات، وهنا مناطق تقع بين مجريين للنيل وتشرب مياها ملوثة، أو تشتريه من الخارج ببعض الجنيهات، وهنا يقبع المرض، وهنا أيضاً يعيش الناس راضين رغم كل هذا العناء.نقلا عن العدد الورقي.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً