اعلان

بعد اختيار الأمم المتحدة "ليلة النار" ليعقوب الشاروني لتترجم للغات العالم.. ننشر الدراسة الكاملة لنجلاء علام عن الرواية

يعقوب الشاروني رائد أدب الأطفال

تحت شعار "كتب الأطفال تغير العالم"، اختارت هيئة الأمم المتحدة واتحاد الناشرين الدوليين رواية "ليلة النار" للكاتب الكبير "يعقوب الشارونى" ، رائد أدب الأطفال، لترجمتها إلى مختلف لغات العالم، وتقيم اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين اليوم الخميس 1 أغسطس 2019 حفلا بعنوان "ليلة في حب الشاروني" بقاعة طه حسين. وفي إطار ذلك نقدم لكم الدراسة الكاملة للمبدعة المتألقة نجلاء علام عن الرواية، بعنوان: العلامات الدالة في " ليلة النار" ليعقوب الشاروني.. الرواية التي اختارتها الأمم المتحدة كأفضل الأعمال الأدبية لمقاومة الفقر وتغيير العالم إلى الأفضل، حيث تقول:

دائمًا ما رسخ داخلي يقين أن أدب الأطفال هو بالضرورة وفي المقام الأول جنس أدبي، يقوم مثلما تقوم بقية الأجناس على مقومات رئيسية مثل البناء الدرامي المُحْكم واللغة المكتنزة المناسبة للحدث، والصراع الدرامي المُستقى من أزمة الأبطال وتوظيف الراوي وغيرها من المُقوّمات،التي تحتاج إلى حركة نقدية واعية تستطيع دفع عجلة الكتابة للطفل في منطقتنا العربية، وخاصة أن الناقد هنا لن يكون عليه عبء استخراج جماليات النص فقط بل سيكون العبء الأكبر في استنباط سبل توظيف هذه المقوّمات لصالح الطفل / القاريء الذي يحتاج لدراسة أبعاده النفسية والعقلية والاجتماعية في ضوء مرحلته السنية.

ودائما أيضا ما كانت الأعمال الأدبية التي يكتبها الكاتب الكبير "يعقوب الشاروني" من قصص وروايات ومسرحيات خير شاهد ودليل على إمكانية تقديم عمل أدبي بكل ما تعنيه الكلمة من جماليات في الكتابة إلى الطفل مهما كان عمره أو بيئته الاجتماعية أو خلفيته الثقافية، ولعل الشاروني بلغ في روايته " ليلة النار" ذروة البناء الدرامي المكتمل.

بنت أصول: الخرع الضعيف والاختراع الخيانة.. هل تعرف معنى خرائع وخراويع والخُراع؟

سبق أن تناولت بالنقد بعض أعمال الشاروني القصصية في دراسة حول " صورة المرأة في المنتوج الثقافي المُوّجه للطفل العربي " ولاحظت تلك الحيلة الذكية التي كان يلجأ لها الشاروني في قصصه الواقعية من قبل فكتبت :

يجيد يعقوب الشاروني، كتابة القصص بلغة مُحكمة، يغزلها بمهارة وحنكة، بموضوعية ومنطق،يعتني بكل التفاصيل ويقدم حيلة درامية ذكية حيث يبدأ الشاروني غالباً قصصه بنبذة عن القضية أو المشكلة، أو الصراع الكامن داخل الأحداث، وكأنه يفاجيء القاريء / الطفل، ويستنفر حواسه، ثم يبدأ في عرض أحداث القصة بمقدمة صغيرة، تتناول الشخصيات غالباً، ويلتف السرد، ليعود إلى نقطة البداية، وهو الصراع، وقد تبلور أكثر، وبدأت خيوط الحل في الظهور.

بنت أصول: تعرف أن "اللبَط" موجود بمعناه في أمهات كتب اللغة؟ تعالَ نتعرف على بقية أهله

أما الآن فقد أصبحت الألفة تامة بينه وبين القاريء / الطفل ولم يعد بحاجة إلى استخدام هذه الحيلة، بل أصبح يراهن على الحكي الممتع فلا شيء يُحفز الطفل على التواصل مع القراءة والاستفادة منها أكثر من المتعة التي يجدها في تتبع الأحداث من خلال بناء درامي يبرع يعقوب الشاروني دائما في تصويره .

وهذا ما نجده في رواية "ليلة النار" حيث تدخلنا الرواية في قلب الحدث مباشرة منذ اللحظة الأولى، يتنازل الشاروني عن وضع مقدمة تشرح تفاصيل حي " منشية ناصر" والخلفيات الاجتماعية والتاريخية لإنشائه رغم المُغريات التي يجدها بعض الكُتاب والخاصة بسرد التفاصيل والانطلاق باللغة إلى مفردات مؤثرة في حد ذاتها، إلا أن الشاروني يعرف جيدا لمن يكتب ( الطفل ) ولهذا يوظف كل ما تقوم عليه حرفية القص من لغة وبناء درامي وضمير الراوي وشخصيته وكذلك اختيار الموضوع وتطور الحدث، كل هذا يجيد الشاروني توظيفه لصالح الطفل / القاريء المتفاعل مع الرواية.

في السطر الأول من الرواية يشم مختار رائحة النار وفي صفحتين ونصف من السرد والوصف تكون النار قد أكلت " سوق القلعة " بأكشاكه الصغيرة المتجاورة، فماذا يفعل " مختار " الطفل البالغ ثلاثة عشر عامًا راوي الرواية بضمير المتكلم أي أنه مُحَرّك الحدث داخل الرواية والمسئول عن قصه ووصفه، يا لها من مسئولية يلقيها عليه الشاروني!

وعبر سبعٍ وثمانين صفحةً يكون السوق قد اجتاز هذه الأزمة الكبيرة، وأصبح معترفًا به من الدولة وتحوّلت أكشاك الصفيح والخشب إلى محلات صغيرة مبنية بالطوب ولها أساس، خلال هذه الرحلة المشوقة في الأحداث والعقد الصغيرة التي يجد لها " مختار " حلولا مستقاة من الاعتماد على النفس والتلاحم المجتمعي نلاحظ عدة مُقومات جمالية يمكن رصدها كالأتي :

أولا : المشهدية

المشهدية وهي تحيل إلى المعنى الدلالي للمشهد الفني الموجود بالرواية بوصفه محاكاة للمشهد الطبيعي ولكنه مختلف عنه من حيث الإضافة الجمالية التي تجعله يرسم بالكلمات الصورة والحركة والشخصية والحدث فهو قادر على إثارة خيال المتلقي / القاريء فيعوضه هذا الخيال عن رؤية مشهد سينمائي متكامل اجتهد المخرج لإيصال كل تفاصيله.

ومن هذا المنطلق نجد يعقوب الشاروني يلاحق المشهد تلو الآخر ليصنع نوعا من التتابع المقصود لمزيدٍ من المشهدية المسيطرة على القاريء المنغمس في تصور الأحداث المتعاقبة، بينما لا يتقاطع الوصف مع الحدث إلا في مرات قليلة لازمة.وكذلك استطاعت اللغة في رواية "ليلة النار" تصوير الحدث وكأنه مشهد سينمائي متحرك، باعتمادها على الألفاظ الجذلة والجملة الرشيقة المكثفة والأفعال المتلاحقة، فلغة الشاروني لغة طيّعة بها غنى في المفردات وخاصة في هذه الرواية فهو يذكر اسم الأداة المستخدمة مرتين، الأولى وهي التسمية العامية للأداة والمتسقة مع سرد أحداث تقع في حي "منشية ناصر" والثانية بالفصحى حتى يستطيع القاريء العربي متابعة الحدث، فمثلا في ص10 يقول : " الجرادل " (الدّلاء ) وفي ص 26 نجده يقول : "لمبة جاز " ( مصباح كيروسين )، وهكذا.ولا يستنكف الشاروني من ذكر مسميات القفة والبستلة وغيرها لوضع القاريء / الطفل داخل إطار الحدث الواقعي.

اقرأ أيضا: بنت أصول: كلمات عامية فصيحة: "إرِم" أصلها ونسبها اللغوي

ثانيا : العلامات الدالة

يقدم الشاروني الكثير من العلامات الدلة داخل رواية " ليلة النار "، ومنها:

• أسماء الشخصيات

مثل المهندسيْن أحمد وسمعان وما يحيل إليه دلالة الأسمين وخاصة أنهما من خططا لبناء السوق من جديد على أسس علمية، وشيخة السوق "الست أم جبر" وما تعارف عليه الناس في المناطق الشعبية بعدم نداء المرأة باسمها المجرد والبحث لها عن كنية تبجيلا لها، حتى إن المرأة غير المتزوجة أو التي لم تنجب يتم نداؤها باسم الأخ أو الأب، ونجد أيضا المقدس "ناروز" كبير العائلات التي هاجرت إلى المنشية من قرية البداري بجوار أسيوط، وهو صاحب الكلمة المسموعة وسط الأهالي وكلمة ناروز أعتقد هي النطق الشعبي لعيد الربيع " النيروز " الذي عرفه أجدادنا واحتفلوا به.

• أصحاب السوق

اقرأ أيضا: بنت أصول: كلمات عامية فصيحة: "أرَن" أصلها وفصلها اللغوي

نلاحظ في رواية " ليلة النار " دقة اختيار الأعمال التي يؤديها الناس في منطقة " منشية ناصر " فمعظمهم غير متعلم ولا يجيد حرفة أو مهنة معينة، الكل يحاول مجتهدا إيجاد لقمة العيش من مصادر منوعة فهذه تبيع القماش وهذه تصنع السجاد وهذا يفرز القُمامة ويبيع المستلزمات الجيدة منها،ومع هذا هم يحلمون بمستقبل أفضل لأولادهم ويصرون على تعليمهم كما جاء في ص 41 ( يوم اجتمع كل تجار السوق، وأزالوا متعاونين في دقائق، كشك "أبو الشمايل زعزع" ومنعوه من تخطي أرض السوق.. كان زعزع يتظاهر بأنه يعتمد في معيشته على تقديم الشاي والقهوة، ثم اكتشف التجار أنه يجمع حوله بعد الغروب بعض المدمنين، ثم بدأ يُغري الصغار من أبناء التجار بتعاطي المخدرات.

أحس الجميع بالخطر .. الخطر على مستقبل الأبناء .. كل صاحب كشك يأمل أن يشق أبناؤه طريقا في الحياة أقل معاناة وأفضل إمكانات مما واجه الآباء والأمهات، وعددًا كبيرًا من الأبناء يواصلون دراستهم، لعلهم لا يضطرون إلى سلوك كثير من الأساليب التي اضطُر الآباء إلى ممارستها تحت ضغوط الحياة الفقيرة القاسية التي واجهتهم..)

• زعيمة السوق

كما نلاحظ الاختيار الدال لشخصية زعيمة أو شيخة السوق "الست أم جبر"، أولا كونها أنثى، فكعادة يعقوب الشاروني في الكتابة يختار للمرأة تلك الأدوار المفصلية التي تدفع الحدث إلى الأمام وتسهم في حل الصراع، ولعلنا نتساءلُ عن المقومات التي تمتلكها أم جبر وحفزت تجار السوق – معظمهم من الرجال - على اختيارها زعيمة، هل مثلا هي أكثرهم ثراءً أو حظوة لدى الحكومة أو أشدهم قوة ، يجيب الشاروني في ملمح بسيط ومباشر في ص 15 فيقول ( استمدت سلطانها من قيامها بدور الوسيط بين أهل السوق ورجال البلدية والشرطة والجمعيات الأهلية، مستفيدة من علاقاتها الواسعة المتشعبة ) ولكننا نلاحظ أن الشاروني قد خَبّأ لها مشهدا دالا يؤكد أحقيتها بزعامة السوق حين اقتنعت بفكرة مختار في ثوانٍ بإعادة بناء السوق بالطوب الأحمر وعملت على تنفيذها فأنقذت السوق وأهله من البقاء تحت رحمة البلدية، فبعد النظر والمغامرة المحسوبة والقدرة على الاستفادة من آراء الآخرين حتى ولو كان طفلا والمبادرة، كل هذا نلاحظه في مشهد دال في ص 46 حين يصفها الشاروني ( نظرت نحوي في صرامة : إذا كان عندك شيء مهم فعليك أن تقوله باختصار .. ليس لدينا وقت نضيعه!

قلت بسرعة : نعيد بناء السوق بالطوب الأحمر .. نتفادى الحريق، ونثبت للبلدية وضع يدنا فلا تعود تضايقنا .. هذه فرصتنا!!

تغيرت في الحال نظرات "شيخة السوق" .. وقفت تتامل وجهي وقد استغرقها تفكير عميق.

صاحت فجأة تسألني : أنت يا ولد يا مختار .. رأيت في المنشية كميات كبيرة من الطوب الأحمر .. هل تعرف من الذي شونها للبناء؟

أجبت بسرعة وقد لاحظت التغير الكبير في سلوكها نحوي " المعلم عبد الجليل المحمودي " . )

اقرأ أيضا: بنت أصول: كلمات عامية فصيحة: "إتِم" أصلها اللغوي وتصريفاتها

ثالثا : التلاحم المجتمعي

ويتجلى في الكثير من الملامح المختلفة ومنها تكامل الحِرَف أو الصناعات فهذا يقوم بجمع القمامة وآخر يفرزها، وهذه تصنع الملابس أو السجاد وأخرى تبيعها، ولا يمكننا أن ننسى مشهد تتابع عربات الكارو الحاملة للأواني المعدنية التي تم ملؤها بالماء لتبريد أرض السوق بعد الحريق، وأيضا مشهد تكاتف الأسر الذي وصفه "مختار" ص 40 حين قال ( خلال دقائق كان هناك طابور ممتد يوقف مرور السيارات في ميدان السيدة عائشة.. طابور من حاملي الأواني الملآنة بالماء وهم يعبرون الميدان ليصبوا ما يحملون من ماء على بقايا الحريق وطابور آخر يعبر الميدان في الاتجاه العكسي يعود بالأواني التي فرغت لتمتلئ من جديد.

حيرني هذا المنظر .. لم يسبق أن رأيت ما يشبهه.. لم أكن أتوقعه، كنت أتصور – كما يكرر والدي – أن العائلات التي تسكن المنشية مشغولة بنفسها وبأفرادها الذين يكافحون ليعيشوا يومًا بيوم، وأنهم لن ينشغلوا أبدًا بغيرهم.. )

أما ما يثير في القاريء / الطفل التعجب هو مقدرة الشاروني على الغوص في تفاصيل مفردات الحياة الشعبية واستخراج معادل قرض البنوك وهو الجمعيات التي تقوم بعملها النساء في الأحياء الشعبية، وهي عادة تدل على التلاحم المجتمعي بين هذه الطبقات الشعبية .

اقرأ أيضا: بنت أصول: "بحّ" يعني "خلص"... فما هو الأبَحّ والبَحْبَحِيُّ والابْتِحاح والتَّبَحْبُح؟

رابعًا : مختار مُحَرّك الأحداث

تُروى رواية " ليلة النار " بضمير المتكلم، ضمير بطل الرواية الطفل " مختار ربيع الشهباوي " ورغم ما يقدمه هذا الضمير من إغراء للكاتب لاعتماده على الغنائية في الحكي إلا أن الشاروني المُدرك لطبيعة المتلقي / الطفل لم ينزلق لهذا الإغراء رغم طبيعة الحدث القائمة على الحريق وفقد فرص العمل، ولكننا نجد الشاروني قد أخذ منحى مختلفًا تماما بتوظيف ضمير المتكلم بديناميكية شديدة فلا نستطيع سوى اللُهاث وراء الأحداث التي يرويها " مختار" بإيقاعٍ سريع في مشاهد متتابعة.

ينتخب يعقوب الشاروني أبطاله، فنجدهم فاعلين في مجتمعهم قادرين على تحمّل المسئولية والتوصل إلى حلول مستقاة من بيئتهم، كذلك فعل " مختار " بطل روايتنا " ليلة النار" فهو طفل في مرحلة المراهقة المبكرة من 13 إلى 16 سنة والتي تتميز بالاندفاع نحو المغامرة والاكتشاف، كما تتميز بنمو العلاقات الاجتماعية وتأكيد الذات وتكوين العقل النقدي، يجيد الشاروني توظيف خصائص هذه المرحلة العمرية داخل الأحداث، كما يجيد غرسها داخل شخصية " مختار " فنجده ينتقد تصرفات الكبار ويقول ( بل هم في الحقيقة لم يفكروا في شيء جديد.. هم قرروا تكرار ما كان موجودا من قبل !! )

كذلك نجده مهمومًا بقضايا مجتمعه الصغير من سكان " منشية ناصر "، يحاول "مختار" دائما إيجاد حلول لبعض المشكلات الاقتصادية التي تظهر داخل الرواية مثل الحصول على الطوب الأحمر اللازم للبناء، أو وسائل نقل المياه أو الطوب وغيرها من المشكلات التي يجد لها مختار بالتعاون مع أبيه وشيخة السوق أم جبرحلولا، ونلاحظ أن هذه الحلول دائما نابعة من الاستفادة من امكانيات البيئة المحيطة والتكاتف المجتمعي والاعتماد على النفس.

كما نلاحظ أن شخصية " مختار" شخصية متطورة عبر الرواية ففي البداية كان يصف الحدث ثم أصبح مُعلقًا عليه وفي النهاية صانعَ الحدث ومُقدمَ الحلول.

ولعلني هنا أكون قد انتهيت من رصد أهم ملامح الكتابة الأدبية وجماليات القص داخل هذه الرواية وبقي أن أشير إلى إبداعٍ موازٍ لإبداع الكتابة وهو الرسم الذي استطاعت فيه الفنانة " سمر صلاح الدين " تقديم لوحات غاية في البراعة من حيث توظيف الأزياء الشعبية للنساء والرجال المنتمين إلى الحي الشعبي، وكذلك الظل والنور الذي جَسّدَ لنا مشهد الحريق وأيضا الاهتمام بالتفاصيل التي تتجلى في كل اللوحات.

أكرر تهنئتي لدار نهضة مصر وللكاتبِ الكبير " يعقوب الشاروني " على اختيارِ رواية " ليلة النار " كأفضل الأعمال الأدبية لمقاومة الفقر وتغيير الحياة إلى الأفضل من قبل الأمم المتحدة.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً