اعلان

الاقتراح العجيب.. قصة للكاتب الجزائري بوفاتح سبقاق

بوفاتح سبقاق
كتب :

    السر في قلوبنا والجهر سمعناه، هذا ما تبادر إلى ذهنه وهو يدلف بهو قاعة الندوات، رأى المشاركين جماعات مختلفة يجسدون ما يحدث في الكواليس، لم أتدخل طيلة الفترة الصباحية ولكن بعد قليل يجب أن أطرح المفاجأة التي ستغير كل الموازين، ربما سيلومونني على التأخر في طرح الموضوع المهم الذي سينقذ البلاد من هذه الأزمات، سأكون موضوع وسائل الإعلام وستظهر صورتي في الصفحات الأولى للجرائد، اسمي سيكتب بحروف ذهبية في قاموس الأعلام، الرجال المهمون في هذه البلاد سيجدون أنفسهم مضطرين للتعامل معي كي لا يفقدوا مناصبهمp فأنا أملك الخاتم السحري الذي سيخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية والأيديولوجية والاجتماعية، سيغيب مصطلح الأزمة ويحل محله مصطلح آخر هو الرفاهية. كل هذا دار في ذهنه وهو قابع وحده في أحد أركان البهو، يتأمل الجميع بنظرات ثاقبة، سيكون لكم الشرف أن تسمعوا ما أريد قوله اليوم، ستفتخرون يومًا بأنكم كنتم أول من استمع إلى الاقتراح العجيب.

كان الجميع في شكل حلقات حديث، ماعدا شخصين اثنين منفردين، تسمر صاحبنا في مكانه عندما أبصر شخصًا أنيقًا واقفًا في الركن المقابل يتأمل الجميع، أتراه مثلي يجمع شتات أفكاره ليبهر الحاضرين باقتراح عجيب؟ إن وقوفه منزويًا له دلالته، وحتى مظهره يدل على أنه مقبل على مهمة كبيرة، لا أتوقع وجود منافس، هل سيكون اقتراحه أفضل من اقتراحي، إنني محتار ولا أتصور بأن هذه الفضاءات الضيقة تسمح بظهور اقتراحين في آن واحد، لابد أن يسطع نجم أحدنا، كل ما أتمناه أن تسنح لي فرصة الحديث قبله حتى لا يجد ما يقوله بعدي، ولكن ما مغزى نظراته نحوي، فعلًا فقد كان الرجل الغريب يرنو بنظرات غير عادية نحو صالح، هذا الأخير لم يكترث لذلك، واحتضن حافظة أوراقه جيدًا مستعدًا للمغامرة الكبرى.

بعد قليل سيتحدد مصيري ومصير هذه الأمة، سيفتخر عمي علي بأنه أصلح دراجتي ذات يوم، أما الحاجة بسمة فستطير من الفرح عندما تعرف بأن من يسكن عندها ذا صيت ومكانة عالية، وستتنازل لي عن ديون الكراء السابقة، والشيء الأكثر أهمية المدير، سيضمن لي الترقية التي طال انتظارها في أسرع وقت ممكن، تبًا لي ما زلت أفكر في مهنتي المتواضعة، عندما أنتهي من كشف المفاجأة لن أكون بحاجة إلى هذه الوظيفة الملعونة.

أخذت الجماعات تتضاءل شيئًا فشيئًا، وهذا يدل على أن الأشغال المسائية ستنطلق، بقي صالح ثابتًا في مكانه لا يبرحه، وغريمه ما يزال في الركن المقابل يراقب. إن أمره يحير، وما سر مراقبته لي؟ يبدو أنه لا يملك شيئًا في جعبته وينتظر مداخلتي في القاعة ليقتبس منها ما يريد، وبعد أن تعطى له الكلمة سوف يتظاهر أمام الجميع بأنه يحمل نفس الاقتراح، وهكذا تصبح الصورة في الجريدة صورتين، وإذا ما استدعيت لبرنامج تليفزيوني سيكون معي، سأكون آخر المتحدثين حتى يكون ختامها مسك، الدخول بعده أو قبله إلى القاعة لن يغير في الأمر شيئًا، سأدخل قبله ليعرف بأنه ليس بمواجهة شخص عادي بل هو بصدد صاحب الاقتراح العجيب، حدق في الرجل الأنيق مليًا ودخل القاعة مرفوع الرأس، وخطواته توحي بأنه يحمل في طيات فكره وحافظته سرًا كبيرًا.

القاعة مكتظة غير أنه بالإمكان العثور على مقعد هنا وهناك، توجه صالح نحو إحداها، المنظمون يغدون ويروحون بين الضيوف والابتسامة لا تفارق محياهم، يسهرون الليالي أثناء هذه الندوة، وأكيد بعدها سيسهرون ليال من نوع آخر، ما يحيرني هو كثرة المدعوين، لو كانت الدعوة لعمل إنتاجي لما حضر عدد بهذه الكثافة، وبما أن الأمر مجرد تبادل وجهات نظر والجلوس على أرائك مريحة، زيادة على أن كل المصاريف تتحملها لجنة التنظيم، أغلبهم جاء بغرض السياحة وملاقاة الأحباب والأصحاب، فهم دومًا يصرون على تغيير مكان الندوة كل سنة، بل هناك من يطالب بضرورة الحفاظ على نفس العدد من المدعوين وجعل الندوة نصف سنوية، وهذا كله من أجل ترقية الصالح العام وضمان مستقبل الأجيال.

المنصة تبدو عادية، المسؤولون المهمون يترأسون الجلسات، ومعظم الوقت يقضونه في تصفح الملفات الموضوعة أمامهم أو شرب المياه المعدنية، كل هذا ويتظاهرون من حين لآخر بالتشاور فيما بينهم، ربما يتناقشون حول شعار الندوة، عبر أحد المسؤولين المهمين عن تأسفه لعدم حضور مسؤول أكثر أهمية، في حين كان أحد المنظمين يطوف بورقته على المشاركين، اجمع ما شئت من أسماء المتدخلين كل ما سيقولونه لن يعادل ما سأقول، عندما أعيدت الورقة، أسرع صالح إلى المنصة وسجل اسمه في قائمة المتدخلين، بهذه الطريقة سوف أضمن صدى لاقتراحي العجيب، ولن يستطيع أحد مخادعتي، أثناء عودته لمقعده لاحظ الرجل الأنيق يراقب بأعين تقدح شرًا، مت بغيظك، ولن تستطيع منافستي، فأنا الرجل الذي سيغير موازين البلاد والعالم.

أعلن المسؤول المهم بأن الوقت سيكفي للاستماع لمجمل التدخلات، وألح على ضرورة التركيز على متطلبات المرحلة.

وهكذا بدأ المشاركون يتوافدون الواحد تلو الآخر على المنصة، كل متدخل يتصور بأنه سيأتي بالجديد، أما صاحبنا فقد تعمد التظاهر بالإنصات والاستماع لكافة التدخلات، بهذه الطريقة سوف يدرك الإخوة الحاضرون بأنني رجل ديمقراطي، أسمع مختلف الآراء، وأنصت كثيرًا لأقول القليل، فالكلام من فضة والسكوت من ذهب، وإذا كان الصمت متبوع بمفاجأة فإنه لا يقدر بثمن.

بدا وكأن كل متدخل يخاطب المنصة ولا يتوجه للحاضرين بتاتًا، فيزداد حماس المتدخلين كلما ابتسم المسؤولون المهمون، فكأنما سلوك هؤلاء يبعث فيهم الحياة كل لحظة، تبًا لهؤلاء المتدخلين إنهم يتكلمون من أجل التكلم فقط، فهم يرددون نفس الشعارات التي قالها هذا الصباح المسؤول المهم، بعد هذا الرجل الثرثار سيأتي دوري، هيا أسرع وكف عن التشدق بما لست مقتنعًا به، هذا الأخير تعمد إطالة تدخله، فأكثر من عبارات المدح والإطراء للمنصة، أكيد أنه لا يملك سكنًا أو يرغب في الحصول على منصب، بعدك سأدخل التاريخ من بابه الواسع، المؤسف أن هناك دائمًا أشخاص يقفون حجر عثرة في طريق العظماء.

توجه أحد المنظمين إلى المنصة وتكلم مع أحد أعضائها المهمين خلسة، في هذه الأثناء كان صاحبنا نصف جالس بينه وبين التاريخ خطوات وثوان، وما إن انتهى المتدخل العقبة من خطابه المستهلك حتى تناول المسؤول المهم الكلمة، مبديًا ارتياحه لجميع التدخلات التي تصب في نفس الإطار الذي دعا إليه في كلمته التوجيهية، ثم أعلن عن أسفه لعدم مواصلة المشاركات، أسرع صالح إلى المنصة ولكن أوقفه حاجز من المنظمين، وقف المسؤول المهم وبطريقة استعراضية أعلن عن وصول مسؤول أكثر أهمية للقاعة، وما إن دخل هذا الأخير رفقة حاشيته حتى اهتزت القاعة بالهتاف والتصفيق، أحس صالح بإحباط كبير، وعاد إلى مقعده يجر أذيال الخيبة، لا يصدق النهاية المأساوية لحلمه الكبير.

لقد ضاعت الفرصة، وما خططت له منذ مدة تبخر في لحظات، هم السبب في تضييع فرصة إخراج البلاد من الأزمة، واصل المسؤول الأكثر أهمية خطابه، وكلما ينتهي من كلمة إلا وتهتز القاعة بالهتاف والتصفيق وحتى الزغاريد، ولم لا؟ وقد أحضرت نساء خصيصًا لهذا الدور.

أخذ يطوف بنظراته عبر هذا الجمع من المصفقين، واستطاع أن يلمح الرجل الأنيق يرمق إليه بنظرات غريبة، تخيلها كلها ازدراء وشماتة فيه لأنه لم يستطع طرح اقتراحه العجيب، من حقه أن يفعل أكثر من هذا، فهو على الأقل لم يحرك ساكنًا، فهو يبدو متوقعًا لما حدث، ثمة شيء يحيرني، ماذا تخفي نظراته الجليدية؟

انتهى المسؤول الأكثر أهمية من كلمته، وأعلن المهم عن نهاية الندوة، خرج المشاركون جماعات ووحدانًا، وكانت الدنيا قد أظلمت بالخارج والأجواء قاتمة، وما إن ابتعد صاحب الاقتراح الذي لم ير النور عن القاعة حتى شعر بمدى خيبته وفشله من جديد وهو يعود كما أتى. هل ينتظر الندوة القادمة؟ أم يتوجه نحو السلطات العليا؟ الاقتراح الذي بحوزته عجيب وغريب، ولن يضمن له صدى وسلامة لنفسه إلا إذا ألقاه أمام الملأ، وفيما هو منشغل بهذه التساؤلات شعر بيد تربت على كتفه وسيارة تتوقف بقربه، التفت فإذا به يجد نفسه بمواجهة الرجل الأنيق بصحبة رجل آخر، لم يجد صعوبة في معرفة غريمه ولكنه احتار، أين رأى الرجل الآخر؟ وجهه ليس بغريب عليه، ربما شاهده في أحد الأشرطة الإشهارية بالتليفزيون.

- هناك مسؤول يريد رؤيتك والتحدث إليك.

- أتقصد المسؤول الذي حضر متأخرًا للقاعة؟

- لا مسؤول أكثر أهمية.

- وهل أنا مرغم على رؤيته؟

- ليس لك فرصة الاختيار، هيا أسرع لا تضيع وقتنا.

بقي صالح مندهشًا، ووجد نفسه يمشي معهم بدون إدراك وكأنه فقد السيطرة على جسمه، وما إن وضع قدمه على حافة السيارة حتى تأمل القمر مليًا، هذا الأخير بدا أقل جمالًا مما كان عليه ساعة خروجه من القاعة، وسرعان ما انطلقت السيارة تشق طريقها كالسهم، وكأن الشارع أراد التخلص منها في برهة من الزمن، فاختفت في لمح البصر.

بعد أيام ظهرت صورة صغيرة لصاحبنا صالح في إحدى الصفحات الداخلية لجريدة يومية، كل هذا ظهر في ركن أبحاث في فائدة العائلات.

إقرأ أيضاً
WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً