اعلان

«بولاق أبو العلا».. تاريخ الحي العريق من "بحيرة الرب الجميلة" إلى وكالة للبلح والخردة

مخطط تطوير مثلث ماسبيرو ببولاق
مخطط تطوير مثلث ماسبيرو ببولاق

دائما ما كانت الشوراع والأحياء تخفي بين جنباتها أسرارا وتواريخ، تظل شاهدة على هدير التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها الأوطان، فكم من شوارع وأحياء كانت في السابق مقصدا للعائلات العريقة وكبار المسئولين، وباتت الآن مستقرا للكادحين والباعة المتجولين،

وعلى هذا المنوال مر حي بولاق أبو العلا الشهير في القاهرة بمراحل تاريخية حولته من 'بحيرة الرب' وميناء القاهرة البحري قديما ليكون الآن معروفا باسم أشهر سوق في مصر 'وكالة البلح'.

التاريخ البعيد

اشتق اسم بولاق من المفردة الفرنسية 'Bon Lac' والتي تعني 'بحيرة الرب'. واشتهر الحي باسم بولاق أبو العلا، نسبة إلى مسجد وضريح السلطان أبو العلا، الموجود بالحي، والذي يعتقد أنه من آل البيت.

ونشأت منطقة بولاق في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون الذي شجع على البناء والتعمير في أراضي الجزيرة الجديدة التي كونها طمي النيل عاماً بعد عام وسط مجراه تجاه أرض اللوق، وكثرت المباني والمنشآت بأرض الجزيرة الجديدة التي سميت بولاق ، وبانحسار مجراه جهة الغرب أخذت تتكون من طرح النهر أرض جديدة لينة كانت تلاقي لوقاً عند زراعتها، ومن هنا سميت بأرض اللوق ثم بولاق.

وقد بدأ ظهور هذه الأرض وامتد عمرانها حتى اتصلت بشاطئ النيل، وبمرور الزمن ازداد العمران بها واتصلت بغيرها من أحياء القاهرة المتاخمة لها.

صورة قديمة لحي بولاق أبو العلا

لم تكن بولاق في يوم من الأيام جزءا من مدينة القاهرة، بل حتى لم تكن ضاحية لها!! فقد نشأت عواصم مصر بعيدا عنها. العاصمة الإسلامية الأولى هي 'الفسطاط' جنوبي القاهرة الحالية عند حصن بابليون .. وعندما أنشأ العباسيون العاصمة الثانية لمصر الإسلامية أقاموها شمال الفسطاط ، وعرفت 'بالعسكر'.

وعندما أنشأ أحمد بن طولون العاصمة الثالثة لمصر وسماها القطائع، أقامها أيضا شمال شرق المعسكر.. حتى جوهر الصقلي الذي بدأ بناء القاهرة لتصبح رابع عاصمة لمصر الإسلامية أقامها أيضا شمال شرق القطائع.

وكل هذه العواصم لم تكن تطل على النيل باستثناء الفسطاط .. بل إن المعز لدين الله الفاطمي عندما وصل إلى مصر ليقيم في القاهرة التي بناها قائد جيوشه جوهر الصقلي، عاتبه عتابا خفيفا عندما رأى موقع المدينة وقال له: 'لو كنت أنشأتها قريبا من النيل يا جوهر!!'.

وبالمناسبة ظلت الفسطاط عاصمة لمصر 112 سنة هجرية، منذ بناها عمرو بن العاص عام 20هـ - 641م حتى عام 750م، عندما زالت دولة بني أمية.

ثم خلفتها مدينة العسكر كعاصمة مع العصر العباسي من 132هـ - إلى 254هـ ؛ أي من عام 868 م – إلى 905م، وظلت عاصمة لمصر 39 سنة هجرية، وعادت الفسطاط عاصمة لمصر مرة أخرى من 293هـ إلى 358هـ أي من 905م إلى 969م لمدة سنة أخرى، لتخلفها المدينة الجديدة القاهرة عاصمة لمصرعام 362هـ - 973م، وذلك بوصول المعز لدين الله إلى القاهرة، ومن هنا تعتبر القاهرة العاصمة الرسمية من ذلك التاريخ. و

واتصلت هذه العواصم الأربع واندمجت في مدينة واحدة .. ولكنها ظلت بعيدة عن النيل .. أي بعيدة عن بولاق!! وبالطبع ما دامت العاصمة في الجنوب .. كان ميناؤها في الفسطاط أي مصر القديمة 'العتيقة' ، وهو في المكان المعروف الآن باسم 'أثر النبي' حيث يستقبل منتجات الصعيد والوجه البحري أيضا.

حملة بونابرت على مصر

ثم بدأ الكلام عن بولاق على استحياء. وربما بدأت تأخذ شهرتها مع حملة بونابرت على مصر عام 1798م ، ومحاولة استخدام موقعها للوصول إلى مناطق الوجه البحري .. واختلف الناس في معنى بولاق .. البعض قال إن أصل الكلمة هو 'بو' أي الجميلة بالفرنسية .. و'لاك' أي بحيرة، أي إن معنى الكلمة 'البحيرة الجميلة' ثم تحرفت من بولاك إلى بولاق.. ولكن ليس عندنا ما يؤكد هذه التسمية أو هذا المعنى لأن بولاق كانت موجودة قبل الحلمة الفرنسية.

عندما كان الحي الميناء البحري للقاهرة

وكانت الجزيرة المقابلة لها في عرض النيل – وهي جزيرة الزمالك الآن – يطلق عليها اسم جزيرة بولاق .. ويقولون أن أصل تكون منطقة بولاق يعود إلى غرق سفينة كبيرة في هذا الموقع. ثم مع إطماء النيل بكثرة في هذه المنطقة بدأت الأرض تعلو، وتتكون أرض جديدة هي بولاق الآن .. وليس عندنا أيضا ما يؤكد هذه الرواية .

وبدأ الاهتمام بضاحية بولاق منذ الحملة الفرنسية على مصر. وكانت البداية شق طريق مستقيم يبدأ من منطقة الأزبكية إلى بولاق ، وقام بتمهيده المهندس 'لوبيريه' كبير مهندسي الطرق والكباري في الحملة ، وغرس على جانبي الطريق الأشجار تسهيلا لمرور فرق الجيش الفرنسي.

وكان هذا الطريق يصل ما بين الأزبكية وبولاق بعد مروره فوق قنطرة المغربي، التي كانت مقامة فوق خليج الطويلة 'الخليج الناصري القديم' مخترقا التلال الموازية للخليج.

العصر الذهبي لبولاق

ولكن العصر الذهبي لحي بولاق بدأ مع عصر محمد علي باشا، عندما أمر باستكمال شق الطريق بين 'القاهرة .. وضاحية بولاق' ، وكان لهذا الطريق فعل السحر في تعمير بولاق ، كما أن محمد علي أنشأ هناك دارا لصناعة السفن مع بدء الإعداد لإرسال الحملة الوهابية، وضرورة إنشاء أسطول قوي لمصر في البحر الأحمر.

ثم أخذ في تحويل المنطقة إلى منطقة صناعية ضخمة .. منها المسابك والمصانع حتى عرفت فيما بعد بالمنطقة الصناعية في السبتية.

وفيما بين بولاق وشبرا على ساحل النيل، أقيمت الورش الكبرى والمطبعة الأميرية ودار الصناعة الكبرى والمباني الحكومية وحظيرة واسعة أطلق عليها اسم 'المبيضة'، حيث كان يتم 'تبيض' الأقمشة بالأساليب المستحدثة.

وكما أنشئ مصنع الخوخ على شاطئ النيل وامتاز بجودة إنتاجه وأزيلت أنقاض بولاق، مما بقي منذ فترة الحملة الفرنسية، وتحولت إلى حي صناعي راق.

فقامت فيه المصانع والمخازن ومساكن المهندسين ومدرسة صناعية كبيرة، حتى أصبحت بولاق بحق ثغر القاهرة في الشمال، وفيها أنشئت أول دار للطباعة في الشرق.

وبجوارها أنشئ مصنع لصناعة الورق ليمد المطبعة بما تحتاجه، بل أنشئ مسبك لسبك الحروف العربية اللازمة للمطبعة.

وتحولت بولاق والسبتية – امتدادها – إلى منطقة صناعية فيها مسابك الحديد ومصانع الأقمشة وورش النجارة والحدادة وغيرها.

عصر الخديوي إسماعيل

وزاد الاهتمام بحي بولاق عندما خطط الخديوي إسماعيل 'القاهرة الخديوية' ووصل التخطيط الجديد من ميدان الإسماعيلية جنوبا إلى نهاية شارعي شريف 'المدابغ' وسليمان باشا.

مسجد السلطان أبو العلا ومبنى وزارة الخارجية

وكان لابد من تجـديد شارع بولاق '26 يوليو الآن' مع مشروع تخطيط ميدان الأزبكية .. لأن هذا الطريق هو بداية تعمير ضاحية بولاق الذي أدى إلى ربط القاهرة الجديدة بشاطئ بولاق، ولم تعد بولاق مجرد ضاحية للمدينة الصاعدة .. ثم جاءت الطفرة التعميرية عندما تم إنشاء كوبري بولاق 'أبو العلا' الذي افتتح في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني 'حفيد إسماعيل' عام 1912م ، وكان هذا الكوبري معجزة هندسية ليربط بين القاهرة وجزيرة الزمالك، ثم يعبر النيل الآخر 'البحر الأعمى' ليصل إلى إمبابة على اليمين ثم العجوزة والدقي على اليسار، وتمتد فوق كوبري أبو العلا وامتداده كوبري الزمالك، خطوط الترام لتصل إلى ميدان الكيت كات في إمبابة يمينا وإلى شارع النيل عند العجوزة يسارا، وإلى حدائق الأورمان والحيوان وصولا إلى ميدان الجيزة ثم إلى منطقة الأهرام .. وأدى وجود الترام إلى انتعاش حركة تعمير منطقة غرب النيل في العجوزة والدقي والجيزة .. وامتداد التعمير إلى منطقة إمبابة ذاتها.

مسجد سنان باشا

وفي المنطقة بين بولاق وساحل النيل، نجد سوق العصر ثم شمالا نجد جامع سنان باشا، وهو أول مسجد كبير يقام على الطراز العثماني، فقد كان سنان باشا من أوائل ولاة العصر العثماني ، ثم نجد سوق الحطب شرقي المطبعة الأميرية وشارع المطبعة الأهلية، وعلى يسار شارع بولاق '26 يوليو' وخلف جامع السلطان أبو العلا نجد الإصطـبلات الخاصة الملكية، ثم نجد حي الحطابة حيث المقر الجديد والحالي لوزارة الخاجية بمبناها الشامخ ، ذات الملامح الفرعونية وتيجانه من زهرة اللوتس .

وجنوبها نجد شارع إصطبلات الطرق ومقر مصلحة نظافة العاصمة قبل إنشاء بلدية القاهرة. وجنوبها جمعية الرفق بالحيوان وكلها غير بعيدة عن شارع 'ظهر الجمال' ولاحظوا العلاقة. بين سوق الحطب والحطابة والإصطبلات والرفق بالحيوان وظهر الجمال‍ !!.

وكالة البلح

على الرغم من أن وكالة البلح تقع في منطقة بولاق أبو العلا إلا أنه نظرا لشهرتها الواسعة أضحت تعرف المنطقة كلها بهذا الاسم 'الوكالة '

ووكالة البلح أو الوكالة هو أشهر الأسواق الموجودة في القاهرة، والتي يقصدها كل الفئات بعدما بات مصدراً للأستوكات الأوروبية ومقصدًا لطلبة الجامعات الباحثين عن الجديد زهيد السعر وجيد الخامة، ويعد سوق وكالة البلح من أقدم أسواق القاهرة إذ أنشأ فى سنة 1880، وتقع الوكاله بين حي بولاق أبوالعلا الشعبي والزمالك أحد أحياء القاهرة الراقية.

يرجع تاريخ إنشاء «وكالة البلح» إلى بدايات القرن التاسع، وقد سميت بهذا الاسم لأنها كانت سوقا مخصصة لتجارة البلح، التي كان تأتي إليها من خلال المراكب الصغيرة التي كانت تصل عبر نهر النيل من الصعيد بجنوب مصر، خاصة من أسوان، إلا أن تجارة البلح بدأت في التراجع تدريجيا واقتصر بيعها في السنوات الأخيرة على تجار الجملة في منطقة «الساحل» التي تبعد قليلا عن وكالة البلح.

صورة لمخطط تطوير مثلث ماسبيرو ببولاق

وبعد أن كانت الوكالة مقتصرة على بيع كل أنواع البلح وبجانبه أقمشة الكتان الآتية من صعيد مصر، تطور الوضع، خاصة بعد رحيل الجيش البريطاني عن مصر، وقام التجار الذين اشتروا مخلفات الجيش من ملابس، وبطاطين، وحقائب، وأدوات منزلية، ببيعها في الوكالة، بعد انتهاء الحرب شهدت «وكالة البلح» سلعة جديدة هي الخردة التي اشتراها التجار من مخلفات الجيش الإنجليزي وقاموا ببيعها لتجار المعادن، و«منذ ذلك الوقت وهؤلاء التجار يقومون بشراء المخلفات المعدنية من المصانع وفرزها إلى حديد ونحاس وألمنيوم وغيرها من المعادن التي تدخل في كثير من الصناعات، بالإضافة إلى تجارة قطع غيار السيارات القديمة، ومن هنا أصبحت الوكالة سوقا تضم شتى أنواع البضائع الخفيفة، من ملابس ومفروشات وأقمشة بالإضافة إلى البضائع الثقيلة من قطع غيار سيارات ومحركات لكل الأجهزة، ومؤخرا قطع أثاث جديدة ومستعملة بأسعار زهيدة».

ودخلت الوكاله حاليا فى تجارة الملابس المستعملة والغير المستعملة، ولكن (فرز ثاني)، أي تحتوي على عيب بسيط في الصناعة، وهي الأغلى في سعرها، وهناك من يبيع (الصيني) الذي يجد إقبالا عليه نظرا لانخفاض سعره ودقة تصميمه.

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً