اعلان

"هارب من الأزهر": صفحات من حياة الإمام محمد عبده (1)

محمد أبو العيون
محمد أبو العيون

مرت الشخصيات المؤثرة في تاريخ الأمم، بمراحل من التحولات الفكرية منها ما هو سلبيٌ حادّ بأصحابها عن جادة الصواب ورمى بهم إلى طريق التيه، ومنها ما هو إيجابي انتشل أصحابها من ظُلمات الجهل إلى رحابة العلم، والنوع الأخير من هذه التحولات الإيجابية هو ما حدث لشخصية الشيخ محمد عبده؛ فبعد أن كان شابًا متمردًا على العلم وكارهًا للدراسة، وكل آماله في الحياة أن يتفرغ للفلاحة، وأن يشبع رغباته في اللهو واللعب بالسلاح والفروسية، تغيرت حياته ليصبح "الأستاذ الإمام" وأحد أهم رموز التنوير في العصر الحديث.

التحولات الفكرية في حياة الإمام محمد عبده

ولد محمد بن عبده بن حسن خير الله، في الأول من يناير عام 1849 م، الموافق سنة 1266 هـ، بقرية صغيرة تُسمى 'محلة نصر'، تتبع مديرية شبراخيت بمحافظة البحيرة؛ لأبٍ مصري وجد تركماني، وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة بني عدي ذات الأصول العربية، والقارئ المتمعن في حياة الأستاذ الإمام، يُدرك أنه مرّ بعدة أطوار من التحولات الفكرية والأيديولوجية بدأت منذ طفولته واستمرت حتى وفاته، ويمكننا تقسيم هذه التحولات على النحو التالي:

المرحلة الأولى: تبدأ منذ طفولته المبكرة وحتى بلوغه سن الرابعة عشر

وخلال هذه المرحلة العمرية تعلم القراءة والكتابة وأتم حفظ القرآن في محلة نصر بمركز شبراخيت، وهي فترة عمرية مشابهة لما كان يعيشه أكثرية الأطفال في مصر وقتئذ؛ يقول الأستاذ الإمام حول هذه الفترة: 'تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن.. قرأت عليه وحديّ جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية.. جاءا من مكتب آخر ليقرءا القرآن عند هذا الحافظ، ظنًا منهما أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ'(1).

المرحلة الثانية: تبدأ من سن الرابعة عشرة وحتى السادسة عشرة

وخلال هذه المرحلة العمرية انتقل من قريته إلى الجامع الأحمدي بطنطا ليتعلم تجويد القرآن بعد أن أتم حفظه، تمهيدًا لانتظامه في التعليم الأزهري، ويؤرخ الأستاذ الإمام لهاتين السنتين قائلًا: 'بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا، حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله، لأجود القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد. وكان ذلك في سنة 1279 هـ'(2).

المرحلة الثالثة: تبدأ من سن السادسة عشرة وحتى الثامنة عشرة و6 أشهر

وهي أول عهده بالتعليم الأزهري؛ حيث جلس في الجامع الأحمدي بطنطا لتلقي دروس العلم، واستمر طوال عام ونصف العام لا يفهم شيئًا مما يُلقى عليه لرداءة النظام التعليمي واعتماده على الحفظ دون الفهم، وهو ما أصابه باليأس من النجاح، ودفعه إلى اتخاذ قرار الهروب من الأزهر والعودة إلى قريته للزواج والتفرغ للعمل في الفلاحة؛ فقد رأى في هذا جدوى وفاعلية أكثر من الانكباب على حفظ كتب التراث الأزهرية.

يقول الأستاذ الإمام: 'وفي سنة مائتين وإحدى وثمانين الهجرية، جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرومية في المسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت سنة ونصف سنة لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم؛ فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لا يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر'(3).

قرر محمد عبده، إغلاق صفحة الدراسة في الأزهر نهائيًا، وأجمع أمره وعقد عزمه على العودة إلى مسقط رأسه محلة نصر؛ لقد أصابته طريقة التعليم الأزهري الرديئة وقتئذ بالإحباط، وتركت في نفسه أثرًا سيئًا وصفه بقوله: 'هذا أول أثر وجدته في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر.. وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم.. سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا.. فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يُبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم، ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه'(4).

المرحلة الرابعة: تبدأ من سن الثامنة عشرة و6 أشهر وحتى التاسعة عشر

وخلال هذه المرحلة غادر محمد عبده، طنطا، وعاد إلى 'محلة نصر' مسقط رأسه، وقد حاول أخيه الشيخ مجاهد، إثنائه عن قراره وإقناعه بمواصلة تعليمه؛ إلا أنه رفض وعزم أمره على العودة، وبالفعل عقب عودته اشتغل في الفلاحة - ملاحظ زراعة -، وتزوج وقرر أن يبقى على هذه الحال بقية عمره، مثله في هذا مثل بقية أقاربه الذين تزوجوا ومارسوا العمل بالزراعة.

يقول الأستاذ الإمام: 'عثر عليّ أخي فأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبق عليّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدال بتغلبي عليه، فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوّجت في سنة 1282هـ، على هذه النية'(5).

وطوال الستة أشهر التي بدأت بهروب الإمام محمد عبده، من الدراسة بالجامع الأحمدي في طنطا، واختفائه ثلاثة أشهر عند أخوال أبيه في قرية 'كنيسة أورين' التابعة لمركز شبراخيت، ثم عودته إلى مسقط رأسه 'محلة نصر'، وعمله بالزراعة وزواجه، كان والده عبده بن حسن خير الله، ملتزمًا الصمت ولم يبدي أي موقف - سواءٍ بالرفض أو بالقبول - تجاه القرارات التي اتخذها نجله.

صمت الوالد لم يستمر كثيرًا؛ فقد فوجئ محمد عبده، عقب زواجه بأربعين يومًا، بوالده يطلب منه العودة فورًا إلى طنطا، وإظهار الجد والاجتهاد في تحصيل دروسه واستكمال تعليمه بالجامع الأزهري.

حاول الشاب المتمرد مناقشة والده؛ إلا أن الأخير كان حاسمًا في حديثه، وألزمه بالعودة إلى الجامع الأحمدي دون السماح له بأي نقاش؛ بل وزاد على هذا بأن أرسل معه مرافقًا 'قوى البنية شديد البأس' يُحرسه، ويتأكد من ركوبه القطار الذاهب إلى طنطا.

يقول الأستاذ الإمام واصفًا ما حدث: 'بعد أن تزوجت بأربعين يومًا، جاءني والدي صحوة نهار، وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم، وبعد احتجاج وتمنّع وإباء، لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، ووجدت فرسًا أحضره فركبته، وأصحبني والدي بأحد أقاربي، وكان قوي البنية شديد البأس، ليشيّعني إلى محطة ايتاي البارود التي أركب منها قطار السكة الحديدة إلى طنطا'(6).

لم يجد محمد عبده، مفرًا من تنفيذ قرار والده، ومغادرة 'محلة نصر' مستسلمًا لقبضة حارسه الذي توجه به إلى محطة القطار بايتاي البارود، وطوال الطريق كان الشاب المتمرد مشغولًا بإيجاد طريقة تمكنه من الهرب؛ فقد كان حتى هذه اللحظة عازمًا على عدم استكمال دراسته في الأزهر، وبالفعل نجح في مغافلة الحارس والفرار إلى 'كنيسة أورين' ليبقى هناك 15 يومًا غيرت مجرى حياته، وصنعت منه 'عبقري التنوير'، وهذا ما نستعرضه في الجزء الثاني من حلقات: 'صفحات من حياة الإمام محمد عبده'.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) مذكرات الإمام محمد عبده - تقديم وتعليق: طاهر الطناحي - القاهرة: دار الهلال - ص: 28 و29.

(2) المرجع السابق - ص: 29 - وسنة 1279 هـ توافق عام 1863 م.

(3، و4) المرجع السابق - ص: 29 و30.

(5) المرجع السابق - ص: 29.

(6) المرجع السابق - ص: 30.

للتواصل مع الكاتب:

[email protected]

WhatsApp
Telegram
إقرأ أيضاً